هيكل وفلسطين... والاستئذان قبل الرحيل!
د. فايز رشيد د. فايز رشيد

هيكل وفلسطين... والاستئذان قبل الرحيل!

بعد كمّ الحبر الذي أُريق في الكتابة عن الراحل الكبير محمد حسنين هيكل, من الصعوبة بمكان اختيار جانب جديد فيه للكتابة عنه. فترى الكاتب والحالة هذه ,مضطرا للتمحيص في كل ما خطّه الآخرون  عن الأستاذ ,حتى لا تأتي مقالته تكرارا مملا لأحد الآخرين, لذا اخترتُ جانبا لم أقرأ عنه ,في كل ما كُتب عن الراحل الكبير. وإن صدف وتناوله أحد, ففقط من حيث تاييده بشكل عام وبكلمات قليلة  للقضية الفلسطينية.  

استأذنَ هيكل قبل الانصراف عن الكتابة, وكان ذلك في أيلول سبتمبر 2003 فقد استوفى آنذاك عامه الثمانين,حيث  قام بحساب زمن العمل على مسافة العمر لتكون النتيجة: اثنتين وستين سنة من الكتابة,التي هي أكثر من كافية لترجل محارب قديم عن صهوة الجواد.ولأن "المسؤولية  الفكرية تكون بالدرجة الاولى 

في القدرة على التخيل" لأنها جدل نموّ, وبعيدة عن أي جمود عقائدي, وقابلة  للتفاعل  مع الحدث ....و"لا تموت لحظة تجسيدها في كلمات", وفقا لمقولة ديكارت, فإن فكرة هيكل المجسدة في الصمت , تماهت مع انصراف الصحفي والكاتب سكوت واطسون ,الذي عمل مراسلا في الحرب الاهلية الإسبانية ,وعرف عن قرب رجالا عظيمين مثل ارنست همنجواي واندريه مالرو وآرثر كوستلر وغيرهم,أثروا فيه وبدوره أثر في أجيال لاحقة في مختلف أنحاء العالم ,حيث عوّضهم بعضا من نقص المعرفة – إن جاز التعبير, تجاه الكثير من الأحداث الحية التي واجهت العالم آنذاك.هيكل جسّد هذه الحقيقة بشكل تام. 

فلسطين بالنسبة لهيكل كانت قضية مركزية مرتبطة بالأمن الوطني المصري والامن القومي العربي. صاغ هيكل كتاب عبد الناصر "فلسفة الثورة", الذي تطرق فيه لخطر إسرائيل على الامة العربية وعلى مصر, وتطرق لعلاقتها العضوية مع الاستعمار . بقي هيكل محافظاً على إيمانه, بأن فلسطين هي "قضية العرب المركزية"(ورد ذلك في كتابه الثلاثي الأجزاء: "المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل".وأوضح بما لا يقبل مجالا للشك في أن القضية الفلسطينية لعبت دورا في قيام ثورة يوليو. عبدالناصر تعامل مع الفلسطينيين مثل المصريين تماما كما العرب جميعهم.كتب هيكل عن معركة الكرامة عام 1968وعن الرائد خالد وقصة استشهاده.انشغل كثيراً بالقضية الفلسطينية، وخصوصاً أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. كان الأخير يرى بأن قضّية فلسطين كانت وستظل قضية العرب الأولى. انتقد كل الاتفاقيات التي جرى توقيعها مع الكيان الصهيوني,كمب ديفيد ,أوسلو ووادي عربة.

 كتب عن قوة إسرائيل لا ليتلقفها كثيرون في النظام الرسمي العربي , لفض الإشتباك نهائيا مع القضية الفلسطينية والتحلل من تبعاتها تحت شعار"افتقاد القدرة على مواجهتها ", وإنما ليُحسب حساب هذه القوة في مجرى الصراع العربي معها. أيّد هيكل الانتفاضات الفلسطينية ورأى فيها مقدمة لبدء مرحلة جديدة من الكفاح الفلسطيني في الزمن الصعب.سياسيا على صعيد  تحديد المواقف من السياسات المصرية على الاصعدة الدولية والإقليمية والعربية, والفلسطينية منها تحديدا,  كان هيكل يحتاج عبد الناصر بالقدر الذي يحتاجه الأخير، كان مقال هيكل في الأهرام (بصراحة) كل يوم جمعة يستغرق صفحة كاملة بأسلوب أشبه بسمفونية، وكان يعتبر مؤشراً لسياسة مصر وتوجهاتها، فهو يمهد الطريق لاتخاذ القرار الرسمي.في هذا المجال ما زلت أتذكر مقالته بعنوان "إني اعترض" والذي كانت سببا في انفكاك  الوحدة الفدرالية الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق، وكان قد اتفق عليها في القاهرة بين الأطراف الثلاثة، بحجة أنها ستضع مصر بين فكي حزب البعث في سوريا والعراق. 

علاقة هيكل بالقضية الفلسطينية مرتبطة ببداياته العملية عندما عُين مراسلا حربيا على الجبهة الفلسطينية عام 1947, حيث عمل قبلا مراسلا أيصاعلى جبهات الحرب العالمية الثانية, العربية منذ عام 1942 -1945 حين انتهت الحرب.في فلسطين التقى بالبكباشي جمال عبدالناصر في الفالوجة. ازدادت علاقة هيكل  بالقضية الفلسطينية التصاقا بعد ثورة يوليو, وبعدما قدم عرفات للرئيس عبدالناصر, وأصرّ الأخير على تقديمه للقيادة السوفياتية وللعالم, باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. هيكل كان  صديقا أيضا للدكتورجورج حبش, والتقيا في حياتيهما كثيرا. هيكل وسامي شرف هما من ساعدا(وفقا لمذكرات الأخير) على إجراء أول لقاء  بين حركة القوميين العرب والرئيس عبدالناصر, وكان ذلك في صيف عام 1963 في الإسكندرية, ذلك برغم اختلافهما حول موضوع ثورة جنوب اليمن المحتل آنذاك, فقد أيدت الحركة ثورة فرعها في جنوب اليمن,  وكانت تحت اسم "الجبهة القومية"بقيادة قحطان الشعبي, وأيد نظام عبد الناصر "جبهة تحرير جنوب اليمن" بقيادة عبد القوي مكاوي وعبدالله الأصنج. ولأن الحبهة القومية هي التي سيطرت فعليا على الأرض ,اضطرت بريطانيا لإجراء مفاوضات الاستقلال معها عام 1967 ,حيت استقل جنوب اليمن.

 مــن مـواقـفـ هيكل المـدهـشـة فــي ســيــرة المـــوت واستئذانه , أنه في زيارته مـقـر إحــدى كبريات الصحف البريطانية، طلب منه أحد محرريها أن يراجع معه, نص كلمة التأبين المــعــدة مـسـبـقـا لـلـنـشـر بـالإنـجـلـيـزيـة عقب وفاته شخصيا (هيكل) ، نظر هيكل للورقة بمشاعر محايدة - كما وصف ذلك لاحقا تعليقا على الحادثة - ثم انتهى إلى قناعة شخصية: بأن الموت هو جزء من الحياة . قال عنه أنتوني ناتنج (وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطانية في وزارة أنتوني إيـدن) ضمن برنامج لهيئة الإذاعـة البريطانية في 14 ديسمبر " : 1978عندما يكون قرب الحدث يهتم الكل بما يعرفه، وعندما يبتعد عن الحدث يتحول اهتمام الكل إلى ما يفكر فيه". يقول ابن خلدون في "مقدمته": "إعلم أن السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره.. والقلم منفذ للحكم السلطاني", ويمضي ابـن خلدون قائلا, إنـه في مرحلة من مراحل الدولة:"يكون أرباب الأقلام أوسع جاهاً من أرباب السيوف وأعلى رتبة ً وأقـرب من السلطان مجلساً وأكثر إليه تردداً ً وثـروة ً ,وأعظم نعمة ُ ".

في برنامج قدمه هيكل شخصيا على فضائية الجزيرة(26 أغسطس 2004) ,وكان حول القضية الفلسطينية, رأى هيكل أن إقامة إسرائيل مرتبط بالعدوان ليس على فلسطين والفلسطينيين فحسب, وإنما على المجموع العربي برمته. أما  الهدف الثاني من إنشائها, فتمثل في :فصل جزئي الوطني العربي في آسيا وافريقيا بقوة معادية للعرب وصديقة للاستعمار. اعتبر أن فلسطين هي قضية القرن الواحد والعشرين.أما عن الاستيطان الإسرائيلي فقد وصفه : بأنه صلب مشروع الدولة الإسرائيلية ,وعنوان وجودها, ولا يتوقع توقفه مطلقا. بالنسبة لمستقبل المشروع الإسرائيلي يرى: بأنه سيتخطى حدود غزة ونهر الأردن. أما حول السلام فيقول هيكل: أنه أبلغ الرئيس الراحل عرفات مرارا ,أثناء تردده على القاهرة, وكان الاخير يحرص على زيارته في بيته, أبلغه بان لا ينتظر أن تعطيه إسرائيل شيئا غير الذي أعطته. حول ما يتوجب فعله في المرحلة القادمة يرى هيكل وجوب الربط بين فلسطين والامن القومي العربي برمته, باعتبارها أهم مرتكزات هذا الامن ومرتبط كلاهما باآخر في علاقة غير قابلة للانفصال.

وبعد...إذا كان هيكل قد استأذن في الانصراف عن الكتابة, ولم يستطعه قبل الذهاب إلى العالم الآخر( ولا أقول الموت),لكنه عوض عن الاستئذان بحديثه إلى نجله: إنه القدر فلا تعانده.هيكل كنت عظيما في حياتك وبما كتبت وتركت فينا ,تماما مثل مواقفك, أخذك الموت ,لكنك ستبقى حيا بيننا مثل كل العظماء. لتهنأ روحك بسلام.

 

د. فايز رشيد