التشاركية ليست ضرورة وهي ليست خياراً..  بل هي أسلوب لتحول الاقتصاد إلى اللبرلة وهيمنة الرأسمال
د. منير الحمش د. منير الحمش

التشاركية ليست ضرورة وهي ليست خياراً.. بل هي أسلوب لتحول الاقتصاد إلى اللبرلة وهيمنة الرأسمال

دعتني جمعية العلوم الاقتصادية السورية، مشكورة، للمشاركة في الحلقة النقاشية التي تقيمها بعنوان (التشاركية ضرورة أم خيار؟!)، وذلك يوم الثلاثاء الواقع في23/2/2016. وقد أثارني هذا العنوان، فهو يطرح (التشاركية) أمراً مسلّماً به سواء كانت ضرورة أم خياراً، وسواء قبلناها أو رفضناها، مما ينسجم مع توجهات الحكومة التي أصدرت قانونها ووضعته قيد التنفيذ، ودعت (المستثمرين) للهرولة باتجاه ما تبقى من مؤسسات القطاع العام لالتهامها وللإقدام على الاستثمار في مشاريع البنية التحتية، قبل أن (يصحو) الشعب من هول صدمة الدمار الإرهابي الذي أصاب البلاد والعباد.

فإذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا تُسرع الحكومة وتحث خطا مجلس الشعب من أجل إصدار القانون، في الوقت الذي تشهد فيه البلاد أقسى الأعمال الإرهابية، وفي الوقت الذي تنهش قوى الفساد وتجار الأزمة جسد أبناء الشعب من أصحاب الدخل المحدود والفقراء، وخاصة من لقمة عيش العمال والفئات الكادحة الأخرى، فأموال الشعب التراكمية جرى تهريبها للخارج، ويستمر العبث بموارد البلاد ليستولي تجار الأزمة على ما تبقى، فإلى من يتوجه قانون التشاركية، أي ضرورة، وأي خيار؟!

على أي حالة، فإن الأمر يدعو إلى مناقشة هادئة، ولكن قبل ذلك لابد من ملاحظة مفادها أن دعاة التشاركية، كما هو حال دعاة الليبرالية الاقتصادية الجديدة، يحبذون مناقشة الأمور الاقتصادية (بالقطاعي) أي بالتجزئة، ولا يريدون مناقشة الوضع الاقتصادي من جميع مناحيه وبأصوله ونظرياته، فنجدهم يطرحون مسألة الأسعار أو الأجور، أو سعر الصرف، وخلاف ذلك، لكنهم يحجمون عن مناقشة السياسات الاقتصادية وخلفياتها النظرية حزمة واحدة، ذلك أن التشاركية بشكلها المطروح ما هي إلا بند من بنود حزمة السياسات المطلوب تنفيذها من قبل المؤسسات الدولية والاتحاد الأوربي والشركات متعددة الجنسية، من أجل التحول نحو اقتصاد السوق ولبرلة الاقتصاد. ولما كان طرح ذلك دفعة واحدة يؤدي إلى الخسران والفشل بسبب السمعة السيئة لهذه السياسات والتجارب الفاشلة في البلدان النامية (وفي سورية خاصة)، إذاً فالمطلوب والمأمول تناول هذه السياسات تدريجياً وعلى طريقة القضم قطعة بعد أخرى، علها تستطيع تمرير الحزمة الإصلاحية الليبرالية بكاملها.

بالعودة إلى مسألة التشاركية نجد أن قانونها قد أعد في وقت سابق، وبالتحديد عام .2009. ففي نهاية ذلك العام عقدت جمعية رجال الأعمال السورية البريطانية مؤتمراً للتشاركية، حضره أركان الحكومة، وبعض المستثمرين، كما حضره مندوبون عن مكاتب استشارية بريطانية لتقديم العون الفني والقانوني للمستثمرين، وأعدت الحكومة في ذلك الوقت ما يدعى بـ(الورقة الوطنية لمشروع التشاركية) تبين فضائل المشروعات التشاركية وأهميتها، كما عُلم أن مستشاري البنك الدولي قدموا مشروعاً قانونياً، إلا أن أوساطاً عديدة في التنظيم الحزبي والنقابي وقفت ضد إصداره، فنام في ذلك الوقت غير مأسوف عليه.

إن المشاركة بين القطاعين العام والخاص مقننة في سورية ويحميها القانون، وتقع في صلب السياسات الاقتصادية من خلال المرسوم التشريعي رقم 10 لعام 1986 الخاص بالمشاريع الزراعية، وكذلك من خلال قانون تشجيع الاستثمار رقم 10 وتعديلاته، فما الداعي إذاً لإصدار القانون الجديد؟

نعتقد أن المقصود بإصدار القانون الجديد للتشاركية هو التوجه صراحة إلى مشروعات البنية التحتية، فهذه المشروعات التي تعني بها:

- مشروعات الطاقة (كهرباء، نفط، غاز..).

- مشروعات الاتصالات (الهاتف الآلي، الجوال..).

- المرافئ والموانئ والمطارات.

- الطرق السريعة.

- المرافق العامة (مياه، صرف صحي..).

هذا النوع من المشروعات الحيوية استقر الرأي حولها على أنها حكر للدولة تملكاً وإدارة، واعتاد الناس على التعامل معها على أنها تقدم للمواطنين بأسعار معتدلة غالباً ما تكون مدعومة، فهي تمثل سلعاً وخدمات ضرورية للمجتمع، تقدمها مؤسسات ضخمة تحتاج إلى رأسمال كبير يعجز القطاع الخاص بإمكاناته المتواضعة عن تأمينها، وإن استطاع ذلك فسيقوم بتقديمها بأسعار مرتفعة تثقل كاهل المواطن (خاصة أصحاب الدخول المحدودة والفقراء وهم أكثرية المجتمع).

وتحتاج مشروعات البنية التحتية إلى تكنولوجيا متقدمة، وإلى صيانات مستمرة لا يستطيع الأفراد تأمينها، لكن قبل ذلك فإن هذه المشروعات تتسم بسمة خاصة وهي أنها على تماس مباشر بالأمن القومي من جهة، وأنها تمثل عنواناً بارزاً من عناوين الاستقلال الاقتصادي والسيادة الوطنية، لكل هذه الأسباب فإن الضرورة تستدعي استمرار سيطرة الدولة عليها، فهي أحد أهم ركائز قوة الاقتصاد وبالتالي قوة الدولة.

إن أهمية سيطرة الدولة على مثل هذه المشروعات تتبدى في حساسية الخدمات التي تقدمها، وأهميتها، فالكهرباء والماء على سبيل المثال، وفي مثل هذه الظروف التي تمر بها البلاد، لا يمكن أن يترك أمر تقديمهما للقطاع الخاص، الذي لا يستطيع تقديمها على النحو المطلوب ما لم يحصل على العائد الذي يكفل له ربحاً مجزياً وعائداً يسمح له بتغطية التكاليف، فضلاً عن أهداف أخرى تتعلق بالتطوير والارتقاء بمستوى الخدمة. في حين أن مستوى الدخل وضرورات التنمية، تفترض تقديم مثل هذه الخدمات بأسعار تتناسب مع إمكانات المواطنين المحدودة.

ولابد هنا أيضاً من التنبيه إلى أهمية الربط بين القطاعات الاقتصادية المتشابكة وعلاقة الكهرباء والمياه بقطاعات الصناعة والزراعة وبمصادر الطاقة.. ويعيدنا هذا إلى ارتباط مشروعات الطاقة بالنهوض الاقتصادي والمجتمعي فضلاً عن علاقتها بالاستقلال السياسي، وقد أدرك الاستقلاليون الأوائل (بعد جلاء الجيوش المستعمرة) تلك العلاقة، فقاموا بتأميم شركات الكهرباء التي كانت مملوكة للأجانب كجزء من إجراءات أخرى اتخذت لتدعيم الاستقلال السياسي بتحقيق الاستقلال الاقتصادي.

وللتأكيد على ارتباط مشروعات البنية التحتية بالأمن القومي، فإن لدينا في سورية مثلاً بارزاً يتمثل في شركات النفط الأجنبية التي كانت ترتبط مع الدولة بعقود خدمة هي شكل من أشكال التشاركية، فعندما بدأت الأحداث الأخيرة عام 2011 بدأت الدول الأجنبية (الولايات المتحدة وأوربا تحديداً) باستخدام العقوبات الاقتصادية للضغط على سورية ومن أجل دعم أعمال الإرهاب ضد الدولة، فكان أن انسحبت شركات النفط الأجنبية بناء على أوامر حكوماتها تنفيذاً لقرارات المقاطعة ومحاصرة الشعب السوري، وقامت بإغلاق أعمالها، فكان ذلك من أشد إجراءات إحكام الحصار الاقتصادي وتهديد الأمن القومي.

أخلص من ذلك إلى أن مشروعات البنية التحتية تمثل أحد مظاهر الاستقلال الاقتصادي، وأحد عناوين قوة الاقتصاد الوطني، ومن هنا يبدو حرص المؤسسات الدولية على وضع يدها على هذه المشروعات تحت عناوين إعادة الإعمار والتشاركية، وفي الحقيقة فإن ذلك يعني بوضوح الاستمرار في إجراءات إضعاف الاقتصاد الوطني، وإضعاف قوة الدولة الاقتصادية بالتالي، واستكمالاً لمشروع تدمير سورية وإلحاق الأذى بسكانها الآمنين.

إننا على قناعة تامة بوطنية قطاعنا الخاص، هذا إذا استبعدنا مصاصي الدماء ومهربي الأموال والمتلاعبين بالعملة الوطنية وبقوت الشعب، وهؤلاء جميعاً يظلون قلة من السهل عزلهم ومحاسبتهم ومساءلتهم على ما اقترفت أيديهم. ومن هذا المنطلق فإن للقطاع الخاص، إذا ما أزيحت الطحالب الموسومة في نسيجه، دوراً أساسياً ليس فقط في النهوض بالاقتصاد الوطني، وإنما أيضاً في إطار إعادة الإعمار، ولكن بعد تحديد مجالاته بدقة، ومع إبقاء مشروعات البنية التحتية بيد الدولة وسيطرتها وإدارتها وتطويرها. فمع قناعتنا بدور القطاع الخاص، فإنه بإمكانياته المادية والفنية لا يستطيع أن يقوم بما تقوم به الدولة في مجال مشروعات البنية التحتية، ولهذا إذا ما تولى ذلك تحت أوهام التشاركية، فإنه سيلجأ إلى الشركات الأجنبية متعددة الجنسية، وكذلك إلى المؤسسات المالية الدولية، وعندئذ ستفقد الدولة أحد أهم رموز الاستقلال الاقتصادي، وسيكون القطاع الخاص السوري في هذه الحالة واجهة لهيمنة الشركات متعددة الجنسية، ومعبراً لاستنزاف قدراتنا الاقتصادية والمالية.

المسألة إذاً ليست مسألة التمييز بين حالتي كون التشاركية ضرورة أم خيار، إنها مسألة ترتبط بالسياسات الاقتصادية الكلية، وبمكانة ودور كل من القطاع العام والقطاع الخاص، ومسألة النظرة إلى البنية التحتية بالذات، لأنها علامة بارزة من علامات الاستقلال الاقتصادي، وعنواناً رئيسياً لقوة الاقتصاد وقوة الدولة.

والمسألة هي كيف ننظر إلى مستقبل الاقتصاد السوري وإلى مسيرة هذا الاقتصاد وإلى أين يتجه، ما هو الشكل وما هو المضمون وما هي الأهداف؟

 

هذه هي المسألة، والسيد رئيس مجلس الوزراء حدد مسيرة الاقتصاد الوطني لدى افتتاح الدورة العادية الثالثة عشرة من الدور التشريعي الأول لمجلس الشعب السوري بتاريخ 7/2/،2016 عندما قال في معرض حديثه عن الأوضاع الاقتصادية:

(لابد من ولادة الجيل الثالث من أجيال الاقتصاد السوري، جيل التشاركية الوطنية الفعالة، كضرورة تاريخية فرضتها أطر التطور من الجيل الأول (جيل القطاع العام)، وما رافقه من مزايا وصعوبات، إلى الجيل الثاني (جيل اقتصاد السوق الاجتماعي)، على (استيلاد) الجيل الثالث كامتداد طبيعي للأجيال السابقة وكحاجة إرادية واعية لإدارة المعادلة الأزلية بين الموارد المحدودة والحاجات اللامحدودة، مع المحافظة على القطاع العام كقطاع رائد واستراتيجي في المسيرة التنموية (جريدة الوطن، 8/20/2016).

إذاً.. القرار اتخذ، نحن أمام الجيل الثالث (جيل التشاركية)، وهنا نقدم التشاركية كضرورة، وكإرادة (مستولدة) كامتداد طبيعي للأجيال السابقة.

هنا نقع مرة أخرى في مصيدة الأفكار التي تنقل إلينا عن طريق المؤسسات الدولية وبعض المستشارين المتطوعين أو (المولدين)، فهي تنقل إلينا تجارب الغرب، وليس عيباً أن نطلع وندرس تجارب الآخرين، لكن العيب هو في نقلها، كما هي، دون أن (نطوعها) لظروفنا وتجاربنا.

وكما هو معروف فإن الغرب دخل في أزمة اقتصادية حادة منذ خريف عام ،2008 بسبب أزمة الرهون العقارية التي بدأت في قطاع المؤسسات المالية والمصرفية في الولايات المتحدة، لتنتقل إلى القطاعات العينية وإلى باقي أنحاء العالم. ومنذ ذلك الوقت بدأت مراكز البحث والدراسات الأكاديمية والاستراتيجية تدرس وتبحث في الأسباب وتداعياتها وما يتعلق بها، والتي أدت إلى ما وصفه البعض بأنه انهيار الرأسمالية، ومن بين أهم الدراسات كانت توقعات ما بعد الرأسمالية.

ومن بين هذه التوقعات، كان تحول النظام الاقتصادي الرأسمالي إلى ما دعاه الاقتصادي الليبرالي البارز (بول ماسون) في كتابه (مابعد الرأسمالية: دليل لمستقبلنا): الاقتصاد التشاركي أو التعاوني. (لاحظ هنا أنه دعاه: دليل لمستقلبنا أي مستقبل العالم الرأسمالي)، وفي الاقتصاد التشاركي يتشارك الأفراد في عملية الإنتاج باستغلال أوقات فراغهم، ومن خلال خلق شبكات مجتمعية لتقديم الخدمات والمنتجات من دون هامش ربح، فهي أنشطة إنتاجية غير هادفة للربح أي أنها أقرب إلى الجمعيات التعاونية)، ويرى ماسون أن هذا النظام (يولد) من رحم الاقتصاد الرأسمالي الحالي، وهو قابل للتطور لكي يصبح نمطاً اقتصادياً خالصاً ومسيطراً فيما بعد الرأسمالية، ويعتمد على مبدأ الوفرة بدلاً من الندرة، يكون محوره السوق والملكية الفردية.قد يكون هذا النظام التشاركي الذي (يولد) من رحم الرأسمالية مناسباً لتطورها، أو حلاً لمشكلاتها، بعد أن أنجزت مهامها التاريخية، فهل يمكن أن يكون حلاً لمشكلاتنا؟ وهو إذ (يولد) من رحم الرأسمالية، فمن أين (سيتولد) في نظامنا الاقتصادي المدمر؟!

 

حسب الصورة التي قدمها السيد رئيس مجلس الوزراء أن التشاركية سيتم (توليدها) كجيل ثالث وكامتداد طبيعي للجيل الأول (جيل القطاع العام)، والجيل الثاني (جيل اقتصاد السوق الاجتماعي)، والسؤال الآن: هل أنجز اقتصاد جيل اقتصاد السوق الاجتماعي ليولد من رحمه جيل التشاركية؟

بالتأكيد لا.. فإن (شعار) اقتصاد السوق الاجتماعي لم ينفذ منه سوى شقه الأول، أي اقتصاد السوق، وحتى هذا الاقتصاد قد دُمر بفعل العمليات الإرهابية وبفضل تجار الأزمات، فولد عنه فوضى السوق، وفلتان الأسعار وانحسار الدخل والأجور، واتساع رقعة الفقر والبطالة وتكدس الثروة من النهب المنظم والسرقات في خزائن البعض.

ثم إن الاقتصاد التشاركي يحتاج إلى توفير الإطار السياسي والاجتماعي والثقافي، فهو بحاجة إلى نوع متقدم من الشفافية والعلانية والنزاهة ونكران الذات، يحتاج إلى أجواء بعيدة عن الفساد وبعيدة عن الإرهاب الفكري والجسدي، ويحتاج مع ذلك وقبله إلى سيادة القانون، والإدارة الحكيمة والصارمة والنزيهة، فهل يتوفر هذا المناخ في بلدنا؟ وأي نظام سياسي يكفل توفيره؟!

تريدون قطاعاً تشاركياً في الاقتصاد، فليكن، ونحن نريد ذلك أيضاً، ولدينا نواة لمثل هذا القطاع، إنه القطاع التعاوني السكني والاستهلاكي، وهو قطاع الحرفيين، ونجده أيضاً في الزراعة، وهذا القطاع يتعرض لمشكلات عديدة، فلتتوجه الجهود لحل مشكلات القطاع التعاوني في جميع الفروع.

ونريد أيضاً قطاعاً تشاركياً في باقي القطاعات الاقتصادية، ويمكن في هذا المجال إقامة مشاريع زراعية وصناعية وحرفية تشاركية ضمن الوطن وبرأسمال وطني وبأيد وطنية، وهنا لابد من توفير المناخ الذي عرضناه سابقاً.

نعم لتُقَم مشاريع تشاركية من خلال برنامج متكامل للتنمية الاقتصادية، دون أن تمس هذه المشاريع القطاع العام الصناعي ومشاريع البنية التحتية، فإذا كان القطاع الخاص حريصاً على قيام نظام تشاركي، فليتفضل وليشارك القطاع العام في إقامة مشاريع تشاركية جديدة، وليترك مؤسسات القطاع العام الصناعي ومنشآت البنية التحتية. بمعنى أنه ليس من المقبول استخدام قانون التشاركية معبراً للخصخصة أو للهيمنة على مفاصل الاقتصاد الوطني الحساسة، ولا وسيلة لتبييض الأموال المسروقة.

 

د. منير الحمش

 

 

آخر تعديل على الجمعة, 26 شباط/فبراير 2016 12:36