علي جرادات علي جرادات

«المبادرة الفرنسية».. تجريب للمُجرَّب

بإصرارها على الاعتراف ب«إسرائيل» «دولة يهودية»، ورفضها وقف عمليات الاستيطان والتهويد المتصاعدة، أفشلت «إسرائيل» جولة التفاوض التي أدارها، في العام 2014، وزير الخارجية الأمريكي جون كيري. لكن إدارة أوباما عوض أن تضغط على «إسرائيل» للتخلي عن شروطها التعجيزية التي تغلق باب ما يسمى «حل الدولتين»، أعلنت، في الظاهر، أنها لن تبذل جهوداً إضافية لاستئناف المفاوضات، لكنها، في الباطن، مارست، في السر والعلن، ضغوطاً متعددة الأشكال على قيادة «السلطة الفلسطينية» لإجبارها على القبول بالشروط «الإسرائيلية»، (وللدقة الصهيونية)، وعلى الكف عن محاولة تطوير إنجاز اعتراف «الجمعية العامة» بالدولة الفلسطينية «كعضو مراقب»، عبر التوجه ل«مجلس الأمن» بمطلب الاعتراف بها دولة كاملة العضوية، وتحديد مرجعية قانونية دولية وسقف زمني للتفاوض على إقامتها على «حدود 67».

في حينه تقدمت فرنسا بمبادرة، لامست، نسبياً، المطلب الفلسطيني، أملاً في التوافق عليها داخل «مجلس الأمن»، لكنها سرعان ما جمدتها لأنها لم تحظ بتأييد الولايات المتحدة ودول أوروبية وازنة. أما مشروع القرار الذي طرحه، آنذاك، الفلسطينيون والعرب على «مجلس الأمن»، فقبرته واشنطن في مهده عبر إحباط حصوله على الأصوات التسعة اللازمة لعرضه على التصويت، على الرغم مما أُدخل عليه من تعديلات أفرغته، عملياً، من مضمونه. وبالنتيجة، أعطت إدارة أوباما «إسرائيل» مزيداً من الوقت، (نحو عامين حتى الآن)، لاستكمال مخططات استيطان الضفة والقدس وتهويدهما، علاوة على استباحتهما أمنياً وعسكرياً، وشن حرب إبادة وتدمير مبيتة، (الثالثة خلال السنوات السبع الماضية)، على قطاع غزة. لكن هذا التمادي، (السياسي والميداني)، الصهيوني غير المسبوق، قاد إلى نتائج عكسية، أبرزها: اعترافات البرلمانات الأوروبية بالدولة الفلسطينية، وتنامي المقاطعة متعددة الأشكال ل«إسرائيل»، واتساع دوائر وأشكال وجهات إدانتها ك«دولة» احتلال عنصرية توسعية عدوانية مارقة، وصولاً إلى اندلاع الموجة الانتفاضية الفلسطينية المستمرة منذ مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
والآن، عوض أن تنسجم الحكومة الفرنسية مع البرلمان الفرنسي، وتحذو حذو حكومة السويد في اعترافها الشجاع بالدولة الفلسطينية، أو، على الأقل، حذو أمين عام هيئة الأمم، بان كي مون، في تفهمه، وإن متأخراً، للمقاومة الشعبية الفلسطينية، وتحميل الاحتلال مسؤولية استمرار الصراع وتلاشي «حل الدولتين»، عادت، (الحكومة الفرنسية)، إلى إحياء مبادرتها عبر دعوة «مجلس الأمن» لاتخاذ قرار بعقد مؤتمر دولي، من دون توضيح ما إذا كان مؤتمراً لتحديد أسس ومرجعية ما يسمى «عملية السلام»، أم مؤتمراً على شاكلة «مؤتمر «أنابوليس»، (مثلاً)، أم مؤتمراً لتوسيع «الرباعية الدولية» للإشراف على المفاوضات، أم مؤتمراً لإقرار مشروع قرار حول الاستيطان؟ فوفق ما أفادت التصريحات الفرنسية فإن هدف الدعوة الفرنسية لم يحسم بعد. هذا فضلاً عن أن الحكومة الفرنسية تعلم قبل غيرها، وأكثر من غيرها، بأن إدارة أوباما التي أحبطت «المبادرة الفرنسية» في العام 2014، باتت في العام الأخير من ولايتها، ويشغلها الاستحقاق الانتخابي، ومقارعة روسيا وحلفائها، دولياً وإقليمياً، على النفوذ في المنطقة، خصوصاً في العراق وسوريا وليبيا، وبأن أقصى ما يهمها، الآن، في الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي» هو محاولة وقف الموجة الانتفاضية ومنع «انهيار السلطة الفلسطينية»، وتحذير، (وللدقة تنبيه)، حليفتها «إسرائيل» من عواقب اتساع رقعة مقاطعتها وعزلتها.
وإذا ما أردنا «إمساك الثور من قرنية»، فلنقل، صحيح أن «المبادرة الفرنسية»، حملت لدى طرحها في العام 2014، وتحمل الآن، موقفاً مختلفاً، نسبياً، عن الموقف الأمريكي، لكن الأصح هو أن هذا الاختلاف هو اختلاف بين حليفين، (فرنسا والولايات المتحدة)، تلتقي مصالحهما العليا، ويتفقان في الرؤية والمنطلقات الأساسية لحل الصراع الفلسطيني الصهيوني، وأن أي تمايز نسبي في المواقف يُحسم، في نهاية المطاف، لصالح موقف الولايات المتحدة، بوصفها قائد «التحالف الغربي»، والدولة الأقوى في العالم. هكذا كانت الحال، ولا تزال، كما أثبتت التجربة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وإنشاء «إسرائيل» بجريمة تطهير عرقي بشعة عام 48، ثم توسعها بعدوان مبيت سافر عام 67، وحتى يوم الناس هذا. وبالتالي، فإن «المؤتمر الدولي» الذي تُجدد الحكومة الفرنسية الدعوة إليه، من دون تحديد معالم هدفه، لن يكون، في حال عقده، سوى منصة لاستئناف المفاوضات، أي إعادة «تجريب المجرب» الفاشل. أما أن تكرر الحكومة الفرنسية تعهدها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في حال فشل مبادرتها، فأمر جيد، لكن تنفيذه قد يتأخر لأعوام، سوف تستغلها «إسرائيل» لمواصلة عدوانها، ومصادرة الأراضي واستيطانها وتهويدها، ما يقفل باب إمكانية التوصل، بالتفاوض، لتسوية متوازنة، تقوم بموجبها دولة فلسطينية مستقلة على «حدود 67»، فما بالك بإمكانية التوصل لتسوية عادلة، يعود بموجبها اللاجئون، (جوهر القضية وأصل الصراع)، إلى ديارهم التي شُردوا منها، وفقاً للقرار الدولي 194!
أما القول إن مبادرة الحكومة الفرنسية، ربما، حصلت على ضوء أخضر من إدارة أوباما، وإن واشنطن ستصوت لصالحها، أو ستمتنع عن التصويت، عند عرضها على مجلس الأمن، فأمر مستبعد، وإن حصل فلن يكون إلا بعد إدخال تعديلات أمريكية تفرغ هذه المبادرة من كل مضمون ينتقص من احتكار واشنطن لملف الصراع ورعاية المفاوضات، ويستجيب للحقوق الفلسطينية، كما نصت عليها قرارات الشرعية الدولية. أما غير ذلك، فالفيتو الأمريكي بالمرصاد، ما يوجب أن تخفف قيادة «السلطة الفلسطينية» من حماستها لإحياء المبادرة الفرنسية، وألا تشتري الوهم مرة أخرى، فالحكومة الفرنسية لن تصمد أمام الضغط الأمريكي، وسوف تسحب أو تجمد، مبادرتها، كما فعلت في العام 2014. كيف لا؟ طالما ظل تجريب أوسلو هو خيار قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لإدارة الصراع مع الاحتلال، وطالما ظل خيار «الوحدة والمقاومة»، الذي يشقه، في الميدان، صناع الموجة الانتفاضية المستمرة، في واد وخيار قيادتي «السلطة الفلسطينية» الصورية المنقسمة في واد آخر. وبكلمات «المبادرة الفرنسية» مجرد تجريب للمُجرب.

المصدر: جريدة الخليج