زبالة بالنكهة اللبنانيّة!
 سلام عبود سلام عبود

زبالة بالنكهة اللبنانيّة!

يقول علماء المزابل: إنّ الزبالة، مثل الفول المدمّس، أنواع عديدة، أجودها الزبالة بالنكهة اللبنانيّة.

لا أحد يعرف لما اختارت الشعوب العربيّة، وعاميّاتها تحديداً، كلمة زبالة بدلاً من قـُمامة!
من دفع الناس الى هذا الخيار اللغويّ المقزز؟ 
كلمة قمامة ذات دلالات دقيقة جداً في القاموس العربي، وهي تشبه في دقتها التعبيريّة وتخصصها الكلمات الأجنبيّة، التي تقابلها في المعنى: المخلـّفات المنزليّة العضويّة وغير العضويّة.
لكنّ اللسان العاميّ آثر كلمة أخرى، عربيّة أصيلة أيضا، لكنّها لا تتفق مع كلمة قمامة العربيّة والأجنبيّة في الدقة اللغويّة، وفي إيراد المعنى الحقيقيّ. لأنّ كلمة "زبل" واشتقاقاتها اللغويّة كافة، ومنها كلمة "زبالة"، لا تعني سوى براز الحيوانات.
اليمنيّون أطلقوا تسميةعجيبة على القمامة، فقالوا: "كدّافة"، ظنّا منهم أنّهم سيتحررون من عوارض الزبالة، وكانوا على ضلال.
ربّما النتانة هي من دفعت الناس الى ذلك!
ولكن، نتانة من؟
التاريخ العربيّ يحمل لنا أمثلة تراثيّة مشرقة في مجال مقاومة الزبالة أو القمامة أو الوساخة. وربّما يكون أكثرها شهرة، ما ينسب الى الرسول محمد من قول مأثور: "النظافة من الإيمان". وسواء صحّ الحديث أم لم يصحّ فإنّ شيوعه وتحوّله الى مثل يُضرب، دليلٌ على رجاحة عقل وذوق قائله. ولو خرجنا من حدود النظافة الى عموم الحديث، أو المثل، لوقفنا على صورة مشرقة من صور التفكير النيّر والسلوك الحضاريّ العاليّ المرتبة: مساواة النظافة الجسديّة بالإيمان، أي بالنظافة الروحيّة. وتلك في ظنى أسمى منازل العقل والروح.
ولا يحسبنّ أحد أنّ العلاقة بين النظافة والزبالة، بمعناها الروحي والحسي، محصورةٌ بالأمثال والكلمات. لقد مدّنا التاريخ العربيّ بأمثلة موثـّقة، تشير الى حجم التعارض بين حكـّامنا المتأنقين، الراقصين، المعاصرين، وبين الحاكم العربيّ الأصيل، حتـّى الخارج منهم تواً من جاهليّة عظيمة. فهذا الخليفة عمر بن الخطاب يمرّ بين بيوت المكيّين منادياً، موبّخاً من لم ينظف فناء داره، قائلا: " قمّوا فناءكم!". وكان نداؤه يشمل الجميع، الصغير والكبير، الغني والفقير. حتى أنه قام بضرب أحد كبار صانعي التاريخ العربيّ، أبي سفيان بن حرب، الأب الروحيّ للسلالة الأمويّة
 . لأن أبا سفيان لم يستمع الى نداء عمر، القاضي بتنظيف فناء داره، وأصرّ على انتظار "مهّانهم"، أي إنتظار كنـّاسيهم، كما تفعل حكومة لبنان اليوم. فما كان من عمر إلا أن رفع درّته (عصاه) ووضعها بين أذني أبي سفيان ضرباً.
ومن طرائف التاريخ، أنّه لم يعترض على عمر سوى هند بنت عتبة، آكلة كبد الشهيد حمزة، عم النبي. فقد اعتبرت سلوك عمر ضد زوجها، ضربا من المؤامرة على حرمة سادة قريش وأكابرها.
أما حاكمنا اليوم فيطلق الرصاص على من يطالبونه برفع زبالته من شوارع مدينتهم الجميلة بيروت، ومن شوارع وطنهم لبنان. ومن لم يطلق النار منهم راح يطلق ما هو أشنع من النار، راح يرصف كلمات التضليل والتستر على تحالف الفساد والزبالة. ها هو عمر بن الخطاب الجديد، فؤاد السنيورة، يصف مكبّات الزبالة اللبنانيّة بالرولزرايس، مانحاً إيّاها بعداً جماليّاً وطبقيّاً وسياحيّاً خاصّاً. فهي ليست كغيرها من الزبالات! بهذا الإعجاز السياسيّ الفريد أضحى السنيورة المؤسس الأوّل لحقل نظريّ جديد في علم الجمال، اسمه علم جمال الزبالة. بيد أنّه يدرك، في زبالة نفسه، أنّه ك?
 ?ذب. لأنّ الزبالة زبالة، مهما كانت مرتبة المنتفع بها، والمستفيد من روائحها الكريهة، ومهما كان ارتفاعها عن مستوى سطح الأرض.
صديق عراقي فقير شارك السنيورة رأيه، ولكن من منظور طبقيّ وجماليّ مغاير تماماً. كتب لي يقول: إنّه يحسد اللبنانيين على زبالتهم! سبب ذلك يعود الى أنّها مخفيّة في أكياس أنيقة، مرصوصة في الشوارع مثل حقائب السفر في مطار بغداد، أو قطع الاهرامات في مصر، بينما زبالتنا -ومعنا زبالة مصر والمغرب واليمن وغيرها- عارية، مكشوفة البدن، تنظر الى مملكة السماء بشماتة، وهي ترى الحشرات والجرذان وأبناء الشعب تقتات من جسدها الطاهر.
رغم أني لا أملك قبعة، إلا أنني أرفع قبعتي للشعب السوري، الذي لم ينس، وهو في أوج مأساته، وفي شدة حصاره الداخلي والخارجي، أن يجعل شوارع مدنه، محصنة الى حد كبير، من مرض الزبالة. كيف؟ لا أعرف.
اليمنيّون عبّروا عن زبالتهم بطريقة مختلفة تماماً. فقد كنسوا ديكتاتورهم بالحديد والنار. لكنّ قوى ذات تقاليد "أبو سفيانيّة" عميقة، طببته ورممته ولمّعته وأعادته الى فناء الدار. وحينما أصر أحفاد عمر على تنظيف فناء الدار، جاء اليهم أبو سفيان مجدداً بكيس مهلهل من أكياس الرئيس المتعفنة، فنصّبه بديلاّ في فناء الدار. وحينما أصر هؤلاء على كنس الأخير، مساعد الرئيس المكنوس، عُوقبوا بمحرقة لئيمة، لم يعرف التاريخ مثيلا لبشاعتها وصمت الجميع عليها ، أقول الجميع، وأعني الجميع؛ محرقة أعادت حتّى الرئيس المحروق الى الحياة مرّة ثالثة، لفرط بشاعة رائحتها ال?
 ?ربريّة.
مثال اليمن، لا ينطبق شكلاً على مثال لبنان، لكنّهما معاً ينبعان من جوهر واحد: الزبالة التاريخية المتكدّسة في فناء دورنا السياسيّة. لماذا أحرق البوعزيزي نفسه؟ زبالة النظام التونسيّ، الممثله برمزه الأمنيّ، دفعه الى ذلك دفعاً. 
ما حيّرني في الشأن اللبنانيّ أمر واحد، ليس الزبالة، بل سبل الدفاع عن الزبالة: فإذا كانت معارضة زبالة اليمن قد قوبلت بعاصفة شريرة، حقود، معروفة الدوافع، فما بال راكبو الرولزرايس اللبنانيّون يقابلون أعداء الزبالة "الأنيقة" بالرصاص؟
تخيلوا: دولة حنون تدافع عن زبالتها بالرصاص!
هذا أمر لا يفهمه سوى الضالعين في شؤون المزابل.
لماذا هذا الحنان المفرط؟
لكي لا يتفاجأ الجميع بالجواب، أذيع عليكم بعض أسراره. قال لي أحد خبراء الزبالة القطريين، والعهدة عليه: إن الزبالة بالنكهة اللبنانيّة تشبه الى حدّ كبير داعش بالنكهة العراقيّة والسوريّة. داعش ليس ذاتا خالصاً بالمعنى الفلسفيّ، بل هو وسيلة أو أداة مصنـّعة، هدفه رسم حدود الطوائف المتصارعة، يتمّ تأطير حركته من الجو بواسطة من يستخدمه. أما حركته الأرضية، من تمرير مقاتلين، وتبادل بيع وشراء النفط والسلاح والتمويل عالميا، وتبادل كتائب المقاتلين إقليميّا وقاريّا، فتتم بإرادة حرة. داعش غول القوى المتاجرة بمصائرنا. الغول المتعطش للدم، الذي لا يتوانى 
 عن أكل أبيه حيّا أو ميّتا، والمدرّب على ذلك جيداً. الغول الجائع أبداً، ولكن المفيد في الوقت عينه. غولٌ يشبه النار الحارقة. يكون نافعاً إذا تمت محاصرته في أسوار محددة، منتخبة، وإذا جُعل حارساً مؤقـّتا لحدود الممالك المرتهنة بيديه، وراعياً لأمنها ومصير سكـّانها، حتى تتم الصفقة.
زبالة لبنان مثل داعش تماماً. بل أجزم فأقول: إنها زبالة داعشيّة مموّهة. إنّها جدار يفصل بين الدولة ومواطنيها، بين الرعيّة وحكامها، بين أرصفة المواطنين وحيطان الحكومة، بين إرادة الشعب وإرادة الرولزرايس، بين هتاف المحتجّين وصوت الرصاص الحيّ والرصاص الميّت.
الزبالة غولٌ شرهٌ، يأكل من الداخل، بعفونته، حياة المجتمع، ويؤطر من الخارج الحدود التي تفصل بين الشعب وطبقة الحكام، يفصل بين مبدأ المواطنة الحرة وبين مبدأ الكتل الاجتماعية المسيّرة، المحكومة سياسيّاً بقانون القطيع.