الاقتصاد السياسي الإفريقي فى النظام العالمي
د. سمير أمين د. سمير أمين

الاقتصاد السياسي الإفريقي فى النظام العالمي

عادة ما توصف أفريقيا بالقارة «المهمشة»، فالعبارة توحي بأن القارة تعد «خارج» النظام العالمي.

لننظر فى بعض الحقائق التي لا تكاد تذكر. ففى عام 1990 بلغت نسبة التجارة الإقليمية الخارجية لإجمالي الناتج المحلي بالنسبة لإفريقيا 6و45% بينما كانت 12,8 % فقط بالنسبة لأوروبا، و13,2% بالنسبة لأمريكا الشمالية، و23,7% بالنسبة لأمريكا اللاتينية، و15,2% بالنسبة لآسيا.كيف لنا أن نفسر هذه الظاهرة الغريبة المتمثلة فى أن إفريقيا تعد أكثر اندماجاً فى النظام العالمي سواء المتقدم أو النامي؟ وفى نفس الوقت فإن صادرات إفريقيا تمثل نسبة ضئيلة للغاية فى التجارة العالمية.

وهذا هو السبب الحقيقى وراء اعتبار إفريقيا "هامشية" فى النظام العالمي. فحقيقة الأمر أنه ليس مهما بالمرة أن صادرات إفريقيا تشكل جزءا ضئيلا من التجارة العالمية. فالرأسمالية ليست نظاما يهدف إلى زيادة الإنتاج إلى الحد الأقصى، ولكنها نظام يختار أحجام الإنتاج وظروفه التي تضاعف معدلات ربح رأس المال إلى أقصى حد لها. إن الدول المسماة بالمهمشة هي فى حقيقة الأمر الدول الأكثر تعرضا للاستغلال بأكثر الطرق وحشية، وبالتالى فهي الدول التي تم افقارها.فالنسبة المتواضعة نسبيا المتعلقة بالمناطق المتقدمة من العالم -أمريكا الشمالية وأوروبا - ترتبط بالخصائص الكيفية التي ينبغى توضيحها: جميع الدول المتقدمة تم بناؤها تاريخيا باعتبارها اقتصادات ذاتية التمركز. بينما ليست الأطراف ذاتية التمركز, وبالتالى فهي مندمجة داخل النظام العالمي بطريقة سلبية (فهي "تتأقلم" مع النظام دون أن تلعب أي دور فاعل فى تشكيله). من هذا المنطلق أستنتج أن جميع مناطق العالم (بما فيها إفريقيا) تندمج بشكل متساوٍ فى النظام العالمي، إلا أنها تندمج فيه بطرق مختلفة.

لقد اندمجت إفريقيا منذ اللحظة الأولى لبناء هذا النظام (القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر).

وكانت مناطق التخوم الرئيسيه فى ذلك الوقت تتمثل فى الأمريكيتين المستعمرتين حيث كان يتم تأسيس اقتصاد تصديري ينظر إلى الخارج، ويسيطر عليه المصالح الرأسمالية الأوروبية للتجارة الأطلنطية. وقد اعتمد هذا الاقتصاد -الذي تركز على السكر والقطن- على عمالة العبيد. وبالتالي ومن خلال تجارة العبيد أندمجت أجزاء كبيرة من إفريقيا جنوب الصحراء فى النظام العالمي بأكثر الطرق تدميرا. وقد رجع جزء كبير من "تخلف" القارة اللاحق إلى هذا الشكل من "الاندماج" الذي أدى إلى انخفاض التعداد السكاني وإلى تفكيك مؤسسات الدولة واستبدالها بأنظمة عسكرية وحشية وحروب مستمرة فيما بينها.

كانت الموجة الثانية من إندماج إفريقيا فى الاقتصاد العالمي فى المرحلة الكولونيالية ، من عام1880 إلى عام 1960. ويبدو لي أننا نستطيع فهم ماهية النماذج الثلاثة الاستعمارية التي عملت فى إفريقيا وهي: أولاً الاقتصاد التجارى الذي يدمج صغار الفلاحين إلى داخل سوق المنتجات الاستوائية من خلال إخضاعهم لسلطة احتكارات القلة مما يسمح بخفض عائد العمل الفلاحي إلى أدنى حد لها وضياع الأراضي. والنموذج الثانى هو اقتصاد احتياطيات جنوب إفريقيا القائم على التعدين، والمزود بالعمالة الرخيصة من خلال الهجرة القسرية القادمة تحديدا من مناطق "الاحتياطيات" غير الكافية لتعزيز استمرار عيش الحياة الريفية التقليدية. والنموذج الثالث هو اقتصاد النهب الذي مارسته شركات الامتياز(الخاصة) من خلال فرض اتاوات دون مقابل يتمثل فى الخدمات التي تقدمها عادة الدولة. وقد تم فرض هذا النمط فى المناطق التي لم تسمح الظروف الاجتماعية بإقامة نمط "التجارة"، ولا بررت الاحتياطيات المعدنية تنظيم الاحتياطات التي تهدف إلى تجهيز القوى العاملة المتوفرة بكثافة. فكان حوض الكونغو ينتمي إلى هذه الفئة الثالثة.

تسبب هذا النمط من الاندماج فى تأخير أي بدء لثورة زراعية ما ولمدة قرن بأكمله، حيث كان من الممكن استخراج فائض من عمالة الفلاحين دون أية استثمارات للتحديث، ودون دفع عائد صحيح لعمل الفلاحين الذين ظلوا يجددون أنفسهم فى إطار الاكتفاء الذاتى التقليدي، ودون حتى ضمان المحافظة على الظروف الطبيعية لاعادة تكوين الثروة (نهب التربة الزراعية والغابات).

وقد صب هذا النمط فى استبعاد تشكل أية طبقة وسطى محلية. ونتيجة لذلك أصبحت غالبية الدول التي تسمى "بالدول الأقل تقدما" موجودة بقارة إفريقيا. وهي البلدان التي تدمرت جراء كثافة اندماجها فى مرحلة مبكرة فى التوسع العالمي للرأسمالية. أما الانتقادات الموجهة ضد إفريقيا المستقلة والمتعلقة بفساد الطبقات الوسطى الحاكمة، أو غياب اهتمامها بالاقتصاد، أو تحجر هياكل المجتمع الريفي، هذه الانتقادات تنسى أن هذه السمات الخاصة بإفريقيا المعاصرة تم تشكيلها فى الفترة ما بين 1880 و1960.

لا عجب إذن أن الاستعمار الجديد قد حافظ على تلك السمات من خلال اتفاقيات لومى الشهيرة التي ربطت إفريقيا جنوب الصحراء بأوروبا. تلك الاتفاقيات قد كرست بالفعل النمط القديم لتقسيم العمل الدولي - انتاج المواد الخام- فى ذات الوقت الذي كان فيه العالم الثالث (خلال فترة باندونج من 1955 إلى 1975) يبدأ فى أماكن أخرى على طريق الثورة الصناعية.

ورغم ذلك وعندما استعادت الشعوب الإفريقية استقلالها السياسي، بدأت هذه الشعوب منذ عام 1960 فى مشروعات تنموية تشابهت أهدافها مع الأهداف فى آسيا وأمريكا اللاتينية.

هذا القاسم المشترك يمكن فهمه بسهولة إذا تذكرنا أنه فى عام 1945 كانت جميع الدول الآسيوية (باستثناء اليابان) والإفريقية (باستثناء جنوب إفريقيا) وامريكا الاتينية (مع بعض الفروق الدقيقة) لازالت محرومة من كل ما يمكن تسميته بصناعة إلا التعدين، كانت كل تلك المجتمعات ريفية فى غالبيتها السكانية تحكمها أنظمة قديمة تتمثل فى الأقلية المالكة للأراضي. ورغم التنوع الكبير الذي تميزت به جميع حركات التحرر الوطني، فقد اشتركت فى نفس الأهداف تقريبا التي تمثلت فى الاستقلال السياسي، وتحديث الدولة، وتحويل الاقتصاد إلى التصنيع.

واليوم هناك إغراء كبير باتجاه قراءة هذا التاريخ على أنه قام ببعض الوظائف المتعلقة بالتراكم البدائي، مما هيأ الظروف للمرحلة التالية التي يفترض أننا ندخل فيها اليوم والتي تتصف بفتح السوق العالمي والمنافسة فى هذا المجال. بيد أن القوى المسيطرة فى الرأسمالية العالمية لم تقم من تلقاء نفسها بإيجاد نماذج التنمية المذكورة، وإنما فرضت هذه "التنمية" عليها فرضا، حيث جاءت نتاجا لحركة التحرر الوطني فى العالم الثالث المعاصر. جميع حركات التحرر فى إفريقيا تتشارك فى هذه الرؤية. غير أنه فى ظل غياب طبقة رجال أعمال كان من المتوقع أن تقوم الدولة بدورهم. ولكن فى بعض الأحيان أيضا عندما برزت الطبقة الوسطى فقد أثيرت شكوك حول امرها بدعوى أن الأخيرة قد تميل لتحقيق مصالحها الخاصة الفورية على حساب المصالح العامة على المدى الطويل. واعتقد هذا الجناح الراديكالي أن مشروعه هو "بناء الاشتراكية". فتبنى الأيديولوجية السوفيتية.

لو تبنينا معيار حركة التحرر الوطني، ألا وهو "البناء الوطني"، لوجدنا أن النتائج قابلة للجدل فى مجملها. والسبب فى ذلك أنه رغم أن تطور الرأسمالية فى المراكز قد دعم الأندماج الوطني، فإن العولمة الفاعلة فى تخوم النظام تهدم المجتمعات. غير أن أيديولوجية حركة التحرر الوطني تجاهلت هذا التضاد، بما أنها منحصرة فى المفهوم البرجوازي الخاص بتخطي التخلف التاريخي"، وتصور هذا اللحاق بالركب من خلال المشاركة فى التقسيم الدولي للعمل. مما لا شك فيه أن هذا التأثير التفكيكي كان كبيرا وذلك وفقا لصفات محددة وموجودة فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية الخاضعة للاستعمار. ففى إفريقيا حيث لم يحترم الترسيم الحدودي الاصطناعي من قبل الاستعمار التاريخ السابق لشعوبها، أدى التفكيك إلى تأجيج النزعات العرقية. وعندما جاءت الأزمة، التي افنت الفائض فجأة، هذا الفائض الذي عزز تمويل السياسيات عبر العرقية للدولة، انكسرت الطبقة الحاكمة نفسها إلى أجزاء فقدت كل شرعيتها التي بنيت على إنجازات "التنمية"، وحاولت أن تخلق لنفسها قواعد جديدة ترتبط فى أغلب الأحيان بارتداد إلى العرقية.

رغم أنه هناك عددا من الدول فى قارتي آسيا وأمريكا اللاتينية قد بدأت بالفعل خلال "عقود التنمية" عملية تحول إلى التصنيع بقيت "التنمية الناجحة" بالنسبة لإفريقيا فى إطار التقسيم العالمي القديم للعمل والقاصر على توفير المواد الخام. الدول النفطية نموذج لهذا الوضع، بالإضافة إلى بعض البلدان "الزراعية الاستوائية" مثل ساحل العاج وكينيا ومالاوي. تم إبراز هذه الدول بوصفها "نجاحات رائعة"، رغم أنها بلا مستقبل، فهي تنتمي إلى الماضي منذ بداية ازدهارها. فعلى سبيل المثال، فإن هذا النوع من التنمية قد تم تحقيقه بالفعل أيام الاستعمار ووصل إلى أقصى حد له بحلول عام 1960. وهذه هي حالة غانا. اما معجزة ساحل العاج, كانت فقط ناتج تقليد ماسبق انجازه فى "ساحل الذهب" (وهو الاسم الكولونيالي لما صار غانا).

ما لحق تآكل مشروعات التنمية القومية فى السبعينيات موثق بشكل جيد.

كانت نقطة البداية التحول الوحشي فى موازين القوى الاجتماعية لصالح رأسمال الدول الإمبريالية الذي حدث فى الثمانينيات من خلال ما يسمى "برامج التكيف الهيكلي". وأقول "المسمى" لأن تلك البرامج فى حقيقة الأمر وضعية أكثر منها هيكلية، هدفها الحقيقي والوحيد هو إخضاع الاقتصادات الإفريقية لقيد خدمة الديون الخارجية العالية، والتي هي بشكل كبير نتاج الجمود الذي بدأ فى الظهور جنبا إلى جنب مع أزمة النظام العالمي المتفاقمة.

وقد وصل العبء إلى مستويات لا يمكن تحملها. كيف تستطيع أية دولة إفريقية فقيرة تخصيص نصف صادراتها أو أكثر لسداد فوائد مثل هذه الديون، وفى نفس الوقت تكون مطالبة بأن تصبح "أكثر فعالية" و"تكيفا"؟ دعونا نتذكر أنه بعد الحرب العالمية الأولى كانت التعويضات التي تدفعها ألمانيا تمثل 7% فقط من إجمالي صادراتها، وهي الدولة القوية الصناعية، وذلك رغم أن غالبية الاقتصاديين فى ذلك الوقت اعتبروا أن هذا المستوى عالٍ للغاية وأن "تكيف" ألمانيا لهذا الأمر يعد مستحيلا! لم تستطع ألمانيا أن تتكيف مع خسارة 7% من تصديرها، ولكن من المفترض أن تكون تنزانيا قادرة على التكيف مع خسارة 60% منها!

النتائج المدمرة لهذه السياسات معروفة: تراجع اقتصادي، وكوارث اجتماعية، وزيادة حالة عدم الاستقرار. إن تدمير النسيج الاجتماعي، والفقر المتنامي، وتراجع التعليم والصحة لا يمكن أن تمثل مؤشرات للإعداد لمستقبل أفضل، ولا أن تكون عوامل مساعدة للمنتجين كى يصبحوا "أكثر قدرة على المنافسة" كما هو مطلوب منهم. العكس هو الصحيح. وفى الوقت الحالي يبدو أن القطاع المسيطر على رأس المال العالمي (الشركات عبر الوطنية) هي من يُملي كل ما هو فى مصلحة تقدم استراتيجياتها الخاصة. ولم تقم الشعوب أو الحكومات الإفريقية بعد بتطوير استراتيجيات مضادة خاصة بهم تتشابه ربما مع ما تحاول دول شرق آسيا أن تفعله. فى هذا الإطار نجد أن العولمة لا تقدم لإفريقيا أية حلول لمشكلاتها. فالاستثمارات الأجنبية الخاصة والمباشرة فى إفريقيا، كما يعلم الجميع، مهملة وتتركز حصريا على الموارد المعدنية والموارد الطبيعية الأخرى. وبعبارة أخرى: إن استراتيجية الشركات عبر الوطنية لا تساعد إفريقيا فى تخطي نمط تقسيم العمل الدولي المنتمي إلى الماضي السحيق. والبديل يحتاج بناء اقتصادات ومجتمعات ذاتية التمركز.

لا يزال الوقت مبكرا كي نعرف ما إذا كانت الشعوب الإفريقية متجهة نحو هذا الهدف أم لا. هناك أحاديث اليوم عن "نهضة إفريقية"، ولا شك أن النصر الذي أحرزه الأفارقة فى جنوب إفريقيا، أي كسر نظام التفرقة العنصرية، قد قدم آمالا إيجابية ليس فقط فى هذا البلد ولكن أيضا فى مناطق واسعة من القارة. ولكن لم تتضح بعد أية إشارات مرئية لهذه الآمال بأنها تبلورت فى استراتيجيات بديلة. هذا يحتاج إلى تغييرات جذرية على مختلف الأصعدة القومية تذهب إلى ما هو أبعد بكثير مما يتعارف على أنه "الحوكمة الرشيدة" (good governance) و"الديمقراطية التعددية".

 

المصدر: صحيفة الأهرام