أوروبا والكفاح المسلّح التفاوضي
زهير أندراوس زهير أندراوس

أوروبا والكفاح المسلّح التفاوضي

عندما تتكرر الكذبة بما فيه الكفاية تتحوّل إلى حقيقة...(فلاديمير لينين)

في كتابه «اعترافات قاتل اقتصادي»، كتب المؤلف الأميركي جون بيركنز، أنّ وظيفتي كانت «أنْ أُشجِّعَ زعماء العالم على الوقوع في شَرَكِ قروضٍ تؤمِّنُ ولاءهم. وبهذا يُمكننا ابتزازُهم متى شئنا لتأمين حاجاتِنا السياسية والاقتصادية والعسكرية. مقابل ذلك يمكنُهم دعم أوضاعهم السياسية بجلب حدائقَ صناعيةٍ ومحطاتٍ كهربائيةٍ ومطاراتٍ لشعوبهم، فيغدو أصحابُ شركات الهندسة والإنشاءات الأميركية أثرياء بصورة خرافية». هذه الكلمات تلخّص السياسة الإمبرياليّة الحديثة التي ابتدعتها الولايات المتحدّة. وهذا الكتاب، الذي بيع منه في الولايات المتحدة ملايين النسخ، مذكرات شخصيّة لكاتبه، الذي يصف فيه وظيفته التي تُلخّص الأسلوب الجديد للإمبريالية الأميركية في السيطرة على أمم العالم الثالث، حيث كان الكاتب يعمل مستشاراً كبيراً للاقتصاديين في شركة «مين» الأميركية العابرة للقارّات. وكانت وظيفته الرسميّة «قاتلاً اقتصادياً»، هكذا من غير تجميل وبدون رتوش، سوى أن الأحرف الأولى من مسمى الوظيفة هو المستخدم في وصف الوظيفة، أي «EHM» بدل «Economic Hit Man»، باللغة الإنكليزية. ومن نافل القول أنّ القارّة العجوز، أوروبا، لا تقلّ استعمارية عن أميركا، وتنتهج هي الأخرى سياسة إمبريالية تهدف في ما تهدف إلى إفقار شعوب العالم الثالث، استباحة دولهم، وتحويلها إلى محميّات طبيعية أو غير طبيعية خدمةً لمصالحها الإستراتيجية والتكتيكية، وفي مقدّمتها جني الأرباح المالية ونهب ثروات الشعوب بطُرق التفافية.

■ ■ ■

بالإضافة إلى ما ذُكر آنفاً، فإنّ سياسة الكيل بمكيالين، أو الازدواجية في المواقف والمعايير، تتجلّى بأقذر بشاعتها في تعامل الاتحاد الأوروبي مع الأزمة في سوريا. في بلاد الشام تُحاول أوروبا تسويق الديباجة الممجوجة والكاذبة بأنّها تؤيد المعارضة وتُزودها بالأسلحة والعتاد العسكري، لأنّها تهدف إلى إسقاط النظام الاستبدادي، متناسيةً عن سبق الإصرار والترّصد أنّ الجماعات التكفيرية، أعلنت جهاراً ونهاراً أنّها تسعى إلى تغيير النظام الحاكم في بلاد الشام وإقامة دولة الخلافة الإسلامية، وترتكب الجرائم التي تقشعرّ لها الأبدان. في سوريا تنظيم القاعدة والمنظمات المنضوية تحت لوائه تُعتبر، بالنسبة للنظام الرسمي الأوروبي، تنظيمات تحرريّة ومتحررّة، وفي مالي الأفريقية تقوم فرنسا بإرسال قوات عسكرية لمنع التكفيريين الإسلاميين، الذين يؤمنون بنفس عقيدة التنظيمات الناشطة في سوريا من السيطرة على البلاد معتبرةً إيّاهم إرهابيين، ويجب وأدهم. ولا نُريد في هذه العُجالة سبر غور النفاق الأوروبي في كلّ ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، والانحياز الكامل للدولة العبريّة من جميع النواحي وفي شتّى المجالات. هذا النفاق المنهجيّ الذي ساهم إلى حدٍ كبيرٍ في سياسة تصفية قضية الشعب العربيّ الفلسطيني باستعمال سياسة المراحل، ومحاولة تحويلها إلى قضية شعب بحاجةٍ إلى الدعم المالي للعيش، لاحِظ المعونات الاقتصادية الأوروبية لسلطة الحكم الذاتي، أوسلو ــ ستان، وتسليط الضوء على أنّه بدون المساعدات الأوروبية لن تتمكّن السلطة من دفع رواتب الموظفين. وكيف تقوم هذه الدول بتجيير المعونات المالية كسوطٍ على رقاب الفلسطينيين لمواصلة التنازل عن الثوابت بما يخدم المشروع الصهيوني، وصنيعته دولة الاحتلال، المتحالف عضوياً وعملياً مع أوروبا الكولونيالية.

■ ■ ■

وهذا الأسبوع اتخذ الاتحاد الأوروبي قراراً بمقاطعة المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، والقدس الشرقية وهضبة الجولان العربية السورية المحتلّة، باعتبارها مستوطنات غير شرعية، وجرياً على العادة الإسرائيلية بدأت الولولة والبكاء، وتهويل تداعيات هذا القرار على خزينة تل أبيب الخاوية، والذي سيُلحق خسائر ماليّة تُقدّر بمئات ملايين اليورو سنوياً. ووصف صنّاع القرار في الدولة العبريّة هذا القرار بأنّه خاطئ، ولن يسمحوا لجهات خارجية بالتدخّل في الشؤون الداخلية لدولتهم، مشدّدين على أنّه عملية تخريبية اقتصادية، ويمس مساً سافراً بجهود وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، لإعادة إحياء ما يُطلق عليها العملية السلمية. وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال المركزي والمفصلي: هل سيُطبّق القرار على أرض الواقع، أم أننّا أمام مسرحية تراجيدية ــ كوميدية أخرى هدفها غير المُعلن امتصاص نقمة الشعب الفلسطيني، الذي سئم من الوعود وملّ من القرارات الدولية التي لا تخرج إلى حيّز التنفيذ. فإسرائيل، لمَن خانته ذاكرته، أو أنّه يُعاني من ذاكرة انتقائية، رفضت منذ إقامتها على أنقاض الشعب الفلسطيني تنفيذ أكثر من ستين قراراً صادراً عن مجلس الأمن الدولي، ومن الناحية الأخرى، بدأ مروّجو الكفاح المسلّح التفاوضيّ الانبطاحيّ في الجانب الفلسطينيّ بالتهليل والتكبير لهذا القرار الـ«تاريخيّ»، حتى ليُخال للإنسان العاديّ بأنّ الدولة الفلسطينية غير منزوعة السيادة ستقوم بين ليلة وضحاها.

■ ■ ■

باعتقادنا المتواضع، القرار الأوروبي ما هو إلا ذرّ للرماد في العيون: القارّة العجوز، وتحديداً بريطانيا هي التي منحت الحركة الصهيونية وعد بلفور، مَن لا يملك أعطى لِمَنْ لا يستحّق، وساهمت إلى حدٍ كبير في بناء وتطوير الدولة العبريّة، على حساب شعبٍ طُرد بالترهيب من وطنه. علاوة على ذلك، من حقّنا، لا بل من واجبنا أنْ نسأل عصابة المنافقين الأوروبيين: مشروع المستوطنات في الضفة الغربيّة بدأ مباشرة بعد عدوان حزيران (يونيو) من العام 1967، أيّ قبل 46 عاماً، والاستيطان هو قرار رسميّ تُصادق عليه الحكومة والكنيست في إسرائيل، وهذا المشروع ما زال مستمراً حتى هذه اللحظة وسيبقى على حاله، وكأنّ شيئاً لم يكُن، ورغم انحياز قرار 242 وقرار 383 لصالح إسرائيل وهما متعلقان بانسحاب الاحتلال من «مناطق» احتُلّت عام 1967، وهذا يتضمن ضمناً رفض الاستيطان، إلا أنّ الاتحاد الأوروبيّ قبل هذا وبعده لم يقم باتخاذ أيّ موقف جاد لصالح قرارات ليست جذريّة، الآن تذكرتم ذلك، بعد أنْ تحوّلت المستوطنات إلى شبه دويلة، بدعمٍ سياسي واقتصادي من حكومات إسرائيل المتعاقبة. أين كنتم طيلة هذه الفترة؟ ثمّ لماذا يا أحفاد الاستعماريين لم تُصدروا قراراً رسمياً يكون بمثابة وعد بلفور للفلسطينيين، ويُطالب بإقامة دولة لهذا الشعب المنكوب منذ 65 عاماً ونيّف؟ لماذا يحّق للصهاينة ما لا يحّق لغيرهم؟ وهنا المكان وهذا الزمان للتذكير بأنّ أوروبا تؤمن إيماناً قاطعاً من ناحية دينيّة، بحسب التوراة والإنجيل المقدّس، بأنّ هذه الأرض منحها الله لليهود لأنّها أرض الميعاد، وهي نفس المنطلقات التي يؤمن بها السواد الأعظم من الإسرائيليين الـ«يساريين» حتى المتشددين والمتطرّفين، مروراً بالوسطيين. وللتدليل على ذلك، يكفينا الإشارة إلى أنّ صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبريّة نشرت يوم السابع عشر من شهر تموز (يوليو) الجاري نقلاً عن دبلوماسي أوروبي قوله إنّه زار البرلمان الصهيوني وتبيّن له من خلال محادثاته مع النواب أنّ عضوي كنيست فقط يؤمنون بتطبيق مبدأ دولتين لشعبين. ثمّ كيف يتساوق ويتماشى هذا القرار الـ«تاريخيّ» مع قيام ألمانيا، بتزويد إسرائيل بغواصّات من طراز «دولفين»، على حساب دافع الضرائب الألماني، وهذه الغواصّات، بحسب المصادر الأجنبية، قادرةٌ على حمل رؤوس نوويّة؟ وبموازاة ذلك، تُشارك أوروبا مشاركة فعّالة في فرض العقوبات الاقتصادية والسياسية على إيران لمنعها من تطوير برنامجها النووي. ومرّة أخرى نسأل: لماذا تزوّدون دولة الاحتلال بالأسلحة النووية، حسب المصادر الأجنبية، ولماذا قامت فرنسا بمساعدة إسرائيل بإقامة الفرن الذريّ في ديمونا، وبالمقابل تعملون السبعة وذمتها لمنع إيران من حيازة الأسلحة غير التقليديّة، لماذا؟

■ ■ ■

وهناك نقطة مهمة أخرى: عندما كانت جنوب إفريقيا محكومة من قبل الأقلية البيضاء، وتُطبّق سياسة الفصل العنصري (الأبرتهايد)، وهي نفس السياسة التي يستعملها الاحتلال في المناطق المحتلّة، تجندّت أوروبا، وفرضت المقاطعة الاقتصادية والسياسية على النظام العنصري، الذي هتك بأرض وعرض الأغلبيّة السوداء في تلك الدولة. واستمرّت أوروبا الرسميّة والشركات الخاصّة بتشديد المقاطعة حتى تمّ القضاء على النظام العنصري في جنوب إفريقيا. وهذا يقودنا إلى سؤال آخر: ما الذي يمنع أوروبا من انتهاج نفس السياسة ضدّ إسرائيل لكي يحصل الشعب الفلسطينيّ على حقوقه التي نصّت عليها الشرعية الدولية، وفي مقدّمتها القراران 181 (تقسيم فلسطين) و194 (حقّ العودة). هذا الكيل بعشرين مكيالاً يؤكّد لكّل من في رأسه عينان أنّ القارّة العجوز على استعداد للعمل من أجل مصالح شعوب معينّة، ولكن عندما يصل الأمر إلى التعامل مع الملفّ الفلسطيني فإنّ الأجندة تتغيّر: أولاً وأخيراً المحافظة على دولة الاحتلال، وضمان تفوقها التكنولوجي والعسكري على الدول العربيّة مجتمعةً، ومنح الفتات، إن لم يكُن أقّل للفلسطينيين.

■ ■ ■

لو كانت أوروبا جادّة بحقٍ وحقيقةٍ في قراراتها وتطبيقها، لكانت وسعّت هذا التوجه نحو وضع معايير حقوق الإنسان والقانون الدوليّ في مركز الأولويات والمعايير لتحديد علاقات الاتحاد الأوروبيّ بإسرائيل، ليس فقط في المناطق المحتلّة والمستوطنات فحسب، وإنما في داخل الدولة العبريّة أيضاً، وخاصّة تعاملها في قضايا حقوق الأقلية الفلسطينية في الداخل، لأنّ مفاهيم الديمقراطيّة وحقوق الإنسان يجب أنْ لا تتجزأ، ولا يجوز التعامل معها بمعايير مزدوجة، ولا غضاضة في هذا السياق في أنّ الكنيست الإسرائيلي سنّ حتى الآن 55 قانوناً عنصرياً لتضييق الحيّز، الضيّق أصلاً، على فلسطينيي الداخل، وما زال الحبل على الجرار. وبالحدّ الأدنى في ما يتعلّق بالموضوع ذاته، فإنّ المفترض من الاتحاد الأوروبي اتخاذ الموقف الحازم والصارم القاضي بخلع المستوطنات، وليس موقفاً رخواً من صادراتها، والذي من السهل الالتفاف عليه.

كاتب من فلسطينيي ـــــ الأخبار