السيّادة الوطنية والتوجه أرضاً

السيّادة الوطنية والتوجه أرضاً

ليست العقوبات الأمريكية على سورية جديدة، ويعرفها السوريون جيداً منذ بضعة أجيال، وليس الحصار الاقتصادي بمفردة جديدة على حياة السوريين اليومية. كما أنّ سورية ليست الدولة الوحيدة التي تعيش حصاراً اقتصاديا أو عقوبات اقتصادية. لكن المهم في الأمر هو كيفية التعامل مع هذا الحصار، ومع هذه العقوبات لا لتكون بلا مفاعيل فلسنا نعيش في بقعة معزولة عن الاقتصاد العالمي، بل لتحويل مفاعيلها إلى أكثر ما يمكن من الإيجابية بالاستنارة من تجارب الدول الأخرى التي عاشت وتعيش هذه التجربة وعلى الأخص أن هذه التجربة تصبح الآن كما في السابق تجربة مستمرة متغيرة الشّدة لا متغيرة النوعية.

ركَّزت اجتماعات البريكس الأخيرة على تطوير عمليات استبعاد الدولار التي ترتبط بثلاثة ملفات: بنك التنمية المشترك، منظومات الدفع والتحويل البديلة، والتبادلات التجارية بالعملات المحلّية. ويعتبر الطرف الروسي الأكثر مبادرة ضمن دول بريكس الخمس باتجاه تقليص الاعتماد على الدولار بين أعضاء المجموعة، وذلك تحت تأثير العقوبات الغربية التي تلوّح بإيقاف التعاملات المالية الروسية بالدولار، وتجميد الاحتياطيات وغيرها من الممارسات، التي تهدد أيضاً دول بريكس وغيرها، في ظل استعار الفوضى الاقتصادية والعقوبات كأداة فيها.

لا وسطاء بين الدولة والسوق

وإذا كانت العقوبات الاقتصادية مطبّقة على سورية منذ عام 2011، فإن عنوان قانون «سيزر» الأخير محاصرة جهاز الدولة السوري ونشاطه الاقتصادي، عبر تهديد قوى السوق العالمية بعدم التعامل مع الحكومة السورية.
ومهما كانت العقوبات ومستوياتها فإن مواجهتها تقتضي حماية جهاز الدولة ونشاطه الاقتصادي، عبر عزله عن سوق المال والأعمال الغربية التي تستطيع العقوبات الأمريكية أن تنشط فيها.
مما يقتضي نشاطاً اقتصادياً سياسياً مؤسساتياً مباشراً لجهاز الدولة، وإزاحة الدولار من التعاملات المالية، وهو يتناقض مع مصالح نخب المال والنفوذ السورية التي تكيّف السياسة الاقتصادية لجهاز الدولة لصالحها، وبالشكل الذي يجعلها مستفيدة من العقوبات بذريعة المخاطرة.
إن التغيير السريع والجذري لسياسات الدولة هذه يصبح اليوم ضرورة مباشرة للحفاظ على حياة الشعب السوري على أرضه ووحدة دولته.
إنَّ سيطرة مؤسسات الدولة على تسيير شؤون الاقتصاد السوري دون أي تدخل لنخب المال والنفوذ، هي خطوة أولى مطلوبة اليوم في سبيل الحفاظ على السّيادة الوطنية، التي تقاسمتها العقوبات الغربية ونخب المال والنفوذ، ولم تُبق منها للسوريين ما يحافظ على سوريتهم.

يُريد السوريون

إن مستويات الفقر ونقص الأساسيات والبطالة والتوقف الاقتصادي، وما تفتحه من احتمالات فوضى تجعل مواجهة هذه المسائل هي المهمة الكبرى.
لذا يُريد السوريون:
• تأمين المواد الأساسية بأقل أسعار ممكنة، بما فيها الطاقة والمواد الغذائية الأساسية المستوردة.
• تحريك الأموال المكدّسة بالليرة السورية لينشط الإنتاج المحلي، والتشغيل والاستهلاك.
• فتح منافذ تصديرية وإن كانت ضيقة إلى الأسواق الممكنة.

التجربة الإيرانية

إن الحل الجذري لهذه المسائل على مستوى حجم الأزمة والمخاطر يتطلب دوراً اقتصادياً مباشراً للدولة، وأن تقوم بعمليات استيراد الأساسيات بشكل مباشر.
وهو أمر تطبقه إيران التي تعاني من عقوبات مشددة أكثر من العقوبات السورية.
إنّ استيراد المحروقات والمواد الغذائية الأساسية ومستلزمات الإنتاج الأساسية يجب أن يتم عن طريق جهاز الدولة مباشرة، وليس عبر الوسطاء الذين يحصلون على نسبة من هذه الكتلة الهامة من الاستيراد تفوق 40%... ما يعني أنه يمكن تقليص نفقات هذه المواد الأساسية بهذه النسبة تقريباً إذا ما استوردتها الدولة مباشرة.
المهمة الاقتصادية الأساسية الثانية لجهاز الدولة هي إطلاق عجلة الإنتاج،
يُريد السوريون أن تتحول الليرات السورية:
• إلى حركة في المصانع الحكومية قبل غيرها.
• إلى إنتاج زراعي وشبكات ري وإعادة تأهيل أراضٍ وإنتاج بذار.
• إلى بناء مساكن وتأهيل أحياء وتزويد بالكهرباء.
• إلى تشغيل حقول وآبار نفطية مستعادة.
• إلى الوظائف والتشغيل المرافق له وتخصيص كتلة مالية إضافية للأجور.
• إلى تنشيط الدولة في استيراد مستلزمات الإنتاج الضرورية: خطوط إنتاج، ومستلزمات صناعية لتزوّد إنتاج الدولة، وليتم إقراضها سلعياً للقطاع الخاص المنتج.

الوقت المناسب

إن هذا الوقت هو الوقت المناسب والضروري لإنقاذ البلاد من المستنقع الذي أوقعت نخب المال والنفوذ البلاد فيه، لأن هذا التوجُّه هو المعتَمد دائماً في وجه العقوبات، والظرف الدولي يسمح به.
في كل دول العالم المقاومة توسع العقوبات من الدور المباشر لجهاز الدولة. وهذا التوجه يجد له سنداً لدى قوى اقتصادية دولية كالبريكس، تستطيع أن تواجه العقوبات بآليات التعامل خارج عملة العقوبات الدولية أي الدولار.
إن إزاحة الدولار من التجارة أصبح مقصداً عالمياً يتكرر حيثما تضغط العقوبات الاقتصادية الأمريكية.

توجهات وطنية!

إن جعل سورية استثناءً عن هذه السياسات لا يمكن إلا أن يعني تصوير السير في الاتجاه الذي يرسمه الأمريكان كأنه قدر. وإخفاء الحلول عن الشعب السوري، وعدم وجود محاولات ونوايا جدية لإزاحة الدولار من التجارة، أو إيجاد بدائل استيرادية، وهي لا تندرج أبداً إلا في إطار التوجهات المضرّة. حيث تتقاطع مصالح نخب المال والنفوذ المحلية مع مصالح الغرب.
لقد أصبح الاقتصاد السوري مدولراً، وتدولرت مستويات الأسعار والنشاط الاقتصادي ومصالح النُّخب كلها. ويتم تقييد كتلة الليرة وفق محدد سعر صرف الدولار.
ليست السياسة النقدية هي وحدها المسؤولة عن مسار الدولرة الذي تسير عليه البلاد، بل المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على مجمل السياسات الاقتصادية لأصحاب القرار الذين يحابون نُخب المال والنفوذ وتجّار الدولار، ولا يمكن الخروج من الحلقة المفرغة لتحكم سعر الصرف بالنشاط الاقتصادي وبمستوى الأسعار إلا بإيقاف التعامل المفرط بالدولار، وفصل السياسات الاقتصادية للسوريين عن أي نشاط اقتصادي معادٍ للشعب السوري.

إجراءات استثنائية

إنّ حل الأزمة السياسية- الاقتصادية بات يتطلب إجراءات استثنائية، فيما يتعلق بالفساد الكبير والطرق اللازمة للقضاء عليه، والتوجه الاقتصادي والنموذج الاقتصادي الداخلي الذي يجب أن يقطع كلياً مع المنظومة السابقة غير الإنتاجية والتابعة والفاسدة والمرتبطة بالغرب، وكذلك فيما يتعلق بالمسألة الديمقراطية، حيث غالبية السوريين هم الطرف المغيّب عما يجري في المسائل الاقتصادية والسياسية السورية، مما يعني أننا بحاجة لنقلة نوعية كبرى وسريعة، تفتح الباب أمام السوريين ليرفعوا أصواتهم عالياً في وجه ظالميهم وناهبيهم بمختلف مستوياتهم وأشكالهم وواجهاتهم .

معلومات إضافية

العدد رقم:
946
آخر تعديل على الإثنين, 30 كانون1/ديسمبر 2019 13:40