«مبادرة عربية» أم رسائل سياسية؟
سعد خطار سعد خطار

«مبادرة عربية» أم رسائل سياسية؟

ظهرت مؤخراً دعوات في وسائل إعلام خليجية إلى «مبادرة عربية لحلِّ الأزمة السورية»، وهي دعوات تشير- بشكلٍ صريح في أماكن، ومستتر في أماكن أخرى- إلى أنه ليس من مصلحة جامعة الدول العربية الوقوف على الهامش في ظل تزايد الوزن النوعي لقوى دولية وإقليمية أخرى في ملف حل الأزمة السورية.

تنطلق هذه الدعوات من حقيقة أنَّ الصراع العسكري في سورية قد انتهى عملياً، وبذلك، فإنَّ على جامعة الدول العربية أن تفكر في كيفية الإسهام على نحوٍ ملموس في التسوية السياسية. و«تحذر» من أنَّ «الانتظار قد يؤدي إلى تراجع في نفوذ الدول العربية داخل سورية، وتقلص قدرتها على صياغة مستقبل المنطقة»، لتصل إلى استنتاجٍ مفاده أنَّ «أفضل مسار عملٍ متاحٍ أمام الدول العربية مرتبط بكيفية التعاون مع الحكومة السورية، وبأية شروط».

حول الجامعة العربية

لا شكَّ في أن الجملة الأخيرة من شأنها أن تثلج صدر بعض القوى المتشددة التي ما انفكت تحاول أن تعطّل العملية السياسية، وتوقف الجهود الرامية إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 2254. إلَّا أنه وبعيداً عن نقاش هذه الجزئية، لا بدَّ من التوقف عند التساؤل عن ماهيّة الجامعة العربية التي يجري الحديث عنها في ظل الظروف الجديدة التي يمرّ فيها العالم.
لا يغفل أحد أن الجامعة العربية منذ نشأتها كانت بريطانية الهوى، وواحدة من مفرزات الاستعمار القديم، الذي حرص على خلق بنى سياسية كفيلة بترك الوضع العربي عند مستوى معين من التطور دون القدرة على تجاوزه بسهولة. كما لا يخفى أنه ومنذ العام 1956، أي مع صعود دور الولايات المتحدة عالمياً في مقابل تراجع الدورين البريطاني والفرنسي، باتت الجامعة العربية منساقة بشكلٍ تام داخل الفلك الأمريكي.
على هذا الأساس، ولدى الحديث عن الجامعة العربية يمكن القول اليوم إننا أمام منظمة متأزمة بسبب تراجع الوزن النوعي للولايات المتحدة عالمياً. وهذا يقودنا إلى أننا أمام حالتين من التعاطي مع هذه المنظمة، الأولى: تفهم أن القوى الغربية دخلت بأسرها في طور أفول هيمنتها، وهو ما ينطبق أيضاً على المؤسسات الإقليمية التابعة لها، بما فيها الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي. وهو ما يفسر مثلاً الدفع الروسي الذي جرى سابقاً لإعادة سورية إلى الجامعة العربية، هذه العودة التي كان يُراد منها أن تكون بمثابة إعادة ترتيب للمنظمة بحيث تتأقلم مع التوازن الدولي الجديد، وأن تكون بداية لتغيير اصطفاف الفضاء العربي ذاته لغير المصلحة الغربية.
أما الحالة الثانية: فهي التي لم تفهم إلى الآن أن الصراخ فوق جثة الميت لن يعيده إلى الحياة، وتعوِّل بالتالي على إمكانية لعب الجامعة العربية دوراً فاعلاً دون إحداث تغيير جذري في توجهاتها الإستراتيجية، أي دون القطع مع المشغِّل الأمريكي. ومثل هذه المحاولات محكومة بالفشل مسبقاً لأنها تخالف المنطق الذي تسير عليه التوازنات الجديدة.

القراءة من زاوية مختلفة

من الخطأ الاعتقاد بأنَّ مثل هذه الدعوات ناجمة عن رغبة عربية في الانخراط بالحل السوري، بما في ذلك مسألة إعادة الإعمار، بغض النظر عن الاعتبارات الإقليمية والدولية، ولا يحتاج الكلام هنا إلى الكثير من البراهين، بحيث يكفي التساؤل: هل لدى العرب، والخليج العربي ضمناً، القدرة على تحمل تكاليف إعادة الإعمار مثلاً في ظل الأزمة المالية التي بات العالم يعيش عند تخومها؟ ثم هل لدى هؤلاء القدرة والرغبة بلعب مثل هذا الدور بعيداً عن الولايات المتحدة؟ حتى الآن، لا تبدو دول الخليج قادرة على خلق علاقات أكثر تكافؤاً مع الولايات المتحدة، بما يسمح لها بهامش حركة معقول في المشهد الدولي، إذ إن عمق العلاقات مع الولايات المتحدة واعتمادها شبه الكامل عليها يكاد يجعل احتمال أن يتخذ الخليج سياسات مستقلة احتمالاً معدوماً بغض النظر عن النوايا والإرادة.
ربّما من الأجدى قراءة هذه الدعوات من زاوية مختلفة، أي قراءتها بوصفها رسائل سياسية من قبل دول عربية تعبّر عن رغبتها في السير باتجاه زيادة حضورها في الملف السوري، وربما باتجاه تطبيع علاقاتها مع الحكومة السورية، ولكن ذلك على أرضية تنفيذ إطار العمل المتفق عليه دولياً، والمتمثل بقرار مجلس الأمن الدولي 2254، الذي لم يعد بإمكان أحد، لا حكومات ولا قوى سياسية، أن يمنع تطبيقه بغضِّ النظر عن موقفه العميق منه، وأقصى ما يمكن عمله بالنسبة للأطراف المتضررة منه هو أن تحاول تأخيره فقط، وحتى هذه المحاولة باتت تصطدم اليوم بممانعة قوية تبديها الدول التي لها مصلحة بتطبيقه، وعلى رأسها روسيا والصين.
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال الدور الجديد الذي يلعبه ثلاثي آستانا (روسيا، تركيا، إيران) في المنطقة، وذلك بوصفه تحديداً نواة لمنظومة إقليمية جديدة ستلعب دوراً رائداً وستتسع لتشمل عدداً إضافياً من الدول التي سيدفعها التغيّر الجذري الجاري في طبيعة العلاقات الإقليمية إلى الانخراط جدياً في هذه المنظومة التي لا تقوم على قاعدة «نقل الهيمنة» من قوى حليفة للولايات المتحدة إلى قوى حليفة لروسيا كما تروّج وسائل إعلام عربية لذلك، إنما يمكن تلمُّس الموقف الصلب لهذا الثلاثي حيال هذه المسألة بخلق منظومة إقليمية قابلة للتكامل فيما بينها، من خلال سد الذرائع وتجفيف بؤر التوتر القابلة للانفجار، بما يخدم الرؤى الإستراتيجية المشتركة حول التكامل الأوراسي وطريق الحرير الجديد، ويتقاطع مع مصالح شعوب المنطقة التي تُركت نهباً للنزاعات الإقليمية التي تمّت تذكيتها غربياً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
945
آخر تعديل على الإثنين, 23 كانون1/ديسمبر 2019 14:05