أفول إمبراطورية (1):  «الرجل المريض» في القرن الـ21

أفول إمبراطورية (1): «الرجل المريض» في القرن الـ21

لسنواتٍ عدّة بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي عام 1991، بدت الولايات المتحدة الأمريكية كما لو أنّها المتحكم النهائي، لا بمصير الشطر الغربي من الكرة الأرضية فحسب، بل وبمصير البشرية بأسرها. امتلأ «الفضاء الفكري» السائد في حينه– وقد كان فضاءً قاحلاً بمعنى الكلمة- بتنظيرات هزيلة من شاكلة «نهاية التاريخ» لفرانسيس فوكوياما، والتي سعت إلى تثبيت انتصار الولايات المتحدة بوصفه انتصاراً لنموذج نهائي وجاهز لحكم العالم... في غمرة الانتصار ومحاولات تأبيده بدا أنّ حقيقة بسيطة وواضحة قد غابت تماماً: الولايات المتحدة إنما هي إمبراطورية، تتشكّل، تتطور وتصعد، تضعف وتزول.

اليوم، ونحن نقترب من مرور عقدين على أحداث 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة- بكلّ ما شكّله هذا الحدث من مؤشر إنذار للأزمة الأمريكية، ودخول الولايات المتحدة مرحلة جديدة من تطورها كإمبراطورية- تزداد باضطراد أعداد المقتنعين بحقيقة التراجع الأمريكي، وهذا مؤشر إيجابي، رغم ما نشهده من تحوّل «العناد» السابق في الاعتراف بهذا التراجع إلى قصورٍ في إدراك أسبابه الجوهرية وفهم أبعاده الكاملة، وهو القصور الذي يسيطر على الأغلبية الساحقة من الأوساط السياسية والأكاديمية والإعلامية.
في هذه السلسلة، سنلقي الضوء على جانبٍ محددٍ من عملية أفول الإمبراطورية الأمريكية، وهو الجانب المتعلّق بأثر التراجع الأمريكي في العلاقات الدولية، وبشكلٍ خاص في علاقة الولايات المتحدة مع حلفائها حول العالم. في الجزء الأول هذا، سنقف عند أهم عوامل التداعي الأمريكي والظرف الدولي الجديد، وبينما ستشكل العلاقات الأمريكية الأوروبية موضوعاً للجزء الثاني، سنخصص الجزء الثالث لتناول التغيّرات في العلاقات الأمريكية مع الحلفاء التقليديين (الخليج، تركيا، اليابان، كوريا الجنوبية، الهند). أما في الجزء الرابع، فسنبحث العلاقات مع أمريكا اللاتينية، وسنفرد لعلاقة الولايات المتحدة مع الكيان الصهيوني جزءاً خامساً.
ليس حدثاً استثنائياً...
غالباً ما يصنّف المؤرخون أسباب انهيار الإمبراطوريات على أنها جملة من العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والطبيعية، وبالأحرى إن تفاعل هذه العوامل وتراكم الضعف والتراجع في كلٍّ منها، هو ما يؤدي إلى فقدان الإمبراطورية قدرتها على الإمساك بزمام الأمور، ما يقودها إلى الانهيار الذي إما أن يكون سريعاً وعاصفاً وإما «هادئاً وبطيئاً». حدث هذا للإمبراطوريات العظيمة الأخرى في الماضي: بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وروما وبلاد فارس وبابل... إلخ.
وكما نجد في كتب التاريخ من حمّلَ رئيس الوزراء، كليمنت أتلي، المسؤولية الكاملة عن تدهور الإمبراطورية البريطانية، ورئيس الوزراء فيليب بيتان مسؤولية انهيار الإمبراطورية الفرنسية، وكذلك الحال مع الإمبراطور فرناندو السابع في إسبانيا ورومولوس أغسطس في روما، نجد اليوم عدداً متزايداً من الباحثين الذين لا يستطيعون أن يروا التراجع الأمريكي، إلا من زاوية ضيّقة الأفق تتعلق بالسياسات التي يتخذها الرئيس الحالي دونالد ترامب، وكأن عملية التراجع هذه لم تكن حاضرة في عهد من سبقه من خصومه السياسيين على حكم الولايات المتحدة.
القتال على جبهتين
بينما ترزح الولايات المتحدة تحت وطأة التراجع الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة والتضخم والعجز الحكومي الفدرالي، تنظر بعينٍ مضطربة إلى تحديات أخرى تهددها وجودياً: النمو الاقتصادي والصناعي والعسكري المتسارع للصين (التي تجاوزت الولايات المتحدة الأمريكية من حيث الناتج المحلي الإجمالي على أساس القوة الشرائية، لتصبح بذلك الاقتصاد الأكبر في العالم وفقاً للتقديرات الصادرة عن صندوق النقد الدولي- انظر الجدول)، ومضي روسيا قدماً في كسر التفوق العسكري الأمريكي، وعمليات التكامل والربط الاقتصادي التي تجري في العالم بعيداً عن «الكونترول» الأمريكي، بما في ذلك العمليات المنظمة والمتسارعة لاستبعاد الدولار الأمريكي بوصفه عملة التبادل العالمي.
والمفارقة هنا هي أن الولايات المتحدة عندما خاضت المواجهة الإستراتيجية في القرن العشرين، خاضتها في وجه عملاق عسكري هو الاتحاد السوفييتي، إلّا أنّ تصدّرها كعملاقٍ اقتصادي، من بين عوامل أخرى كثيرة، سمح لها بحسم موازين القوى لمصلحتها في نهاية المطاف. أما في ظل التوازنات الدولية اليوم، تضطر واشنطن لخوض المواجهة ذاتها، لكن باختلافٍ جذري في المشهد، حيث لا تخوضها في وجه روسيا التي تمثل عملاقاً عسكرياً في هذا السياق فحسب، بل وفي وجه الصين– القوة الاقتصادية رقم واحد عالمياً.
تعقّد التحالفات
أمام حالة التراجع هذه، تجد واشنطن نفسها مكبّلة حتى النخاع في تحالفاتها التقليدية القائمة؛ فالدول التي دخلت سابقاً في تحالفات مع الولايات المتحدة وفقاً لحسابات وجدت أنها رابحة، تُعيد اليوم تقييم هذا التحالف وفقاً للحسابات ذاتها، حيث باتت خسائره أعلى من فوائده، ولا سيما في ظل صعود بدائل يمكنها أن تقدّم العديد من المشاريع ذات المنفعة العالية لهذه الدول. أكثر من ذلك، فإنّ الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، باتوا محل عمليات ابتزاز أمريكي قاتلة، إذ عليهم دفع فواتير الصراع، وفواتير الأزمة الأمريكية، وفوق ذلك كلّه، على هذه الدول أن تتحول إلى ساحات للفوضى الخلاقة لمشاغلة الصين وروسيا كرمى لعيون الأمريكي... كل ذلك قد دفع عدداً غير قليل من هؤلاء الحلفاء لقطع أشواطٍ كبيرة في عملية إعادة تقييم هذا «التحالف»، وبعضها دخل فعلياً في إجراءات عملية للابتعاد التدريجي عن واشنطن، وستظل هذه العملية متواصلة إلى أن تتكيّف هذه الدول جدياً مع الواقع الدولي الجديد.
بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، بلغت الإمبراطورية العثمانية ذروة قوتها، وامتلكت الجيش الأقوى في العالم، وكانت تهابها كل الدول الأوروبية. فيما بعد، انكفأت هذه الإمبراطورية وتكبّدت سلسلة من الهزائم السياسية والعسكرية، حتى أمست مع نهايات التاسع عشر وبدايات العشرين، معروفة باسم «الرجل المريض» الذي تجمّعت في جسده أمراضٌ شتّى قادته نحو الهزال والتداعي. وإذا أخذنا بالاعتبار أن الأمراض في جسد الإمبراطورية الأمريكية اليوم هي أكثر تعقيداً وأضعاف ما كانت عليه أمراض الإمبراطورية العثمانية، فإنه ليس من المغالاة القول إن واشنطن تستحق عن جدارة لقب «الرجل المريض في القرن الواحد والعشرين»

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
927
آخر تعديل على الخميس, 22 آب/أغسطس 2019 14:14