تصعيد واشنطن آسيوياً: الصين لم تعد عدواً اقتصادياً فقط
مالك موصللي مالك موصللي

تصعيد واشنطن آسيوياً: الصين لم تعد عدواً اقتصادياً فقط

في وقتٍ كان فيه معهد «بروكينغز» الأمريكي مشغولاً في البحث عن «سبل الحفاظ على قوة الردع الأمريكية في شرق آسيا»، ليخدّم بذلك التطلعات الأمريكية الرسمية للتصعيد في الجزء الشرقي من العالم، وتحديداً على التخوم الصينية، كانت الحكومة الصينية مشغولة هي الأخرى في أعمال منتدى الحزام والطريق الذي جمع أكثر من 40 من قادة العالم يناقشون مشروع «الطريق والحزام» الذي من شأنه تحويل النطاق الأوراسي بأكمله، من خلال التعاون والاستثمار في البنى التحتية للنقل والطاقة والتكنولوجيا.

خلال المنتدى، وقَّعت مئة وخمسة وعشرون دولة نوايا للتعاون في مشروع «الطريق والحزام»، وصدّقت 30 منظمة على 170 اتفاقية، أما مجموع الاستثمارات المتوقعة من قبل بنك الشعب الصيني فقد بلغ أكثر من 1,3 تريليون دولار في الفترة من 2023 إلى 2027. كما أعلنت الصين أنها سوف تزيد إجمالي استثماراتها في الدول الواقعة على «الطريق والحزام» بنسبة 14% خلال العامين المقبلين.
وبينما تقدم السياسات الصينية إطاراً جامعاً للدول لتظهر قدرتها على التغلب على النزاعات والحروب من خلال التعاون والازدهار المشترك، تبقى واشنطن شبه وحيدة، محاولة إلحاق الضرر بروسيا والصين، ملوّحة بعصا السلاح النووي في شرق آسيا، ومركّزة على الضغط ضد حلفائها الأوروبيين من خلال حرب الرسوم الجمركية، والحظر التكنولوجي والعقوبات ضد البنوك، كما حدث مع إيران وأوروبا. حيث لم يبقَ أمام واشنطن سوى تهديدات الحرب الفارغة، والوثائق التي تعلن أن روسيا والصين خصمان تنبغي هزيمتهما، ودعاية كبيرة للحرب لأغراض ملء خزائن شركات تصنيع الأسلحة الأمريكية.
إلّا أنّ ذلك لم ينجح في ثني المشروع الصيني لتحسين مستويات معيشة الأفراد من خلال القروض الضخمة المقدمة لتحسين البنية الأساسية، مثل السكك الحديدية والمدارس والطرق وقنوات المياه والجسور والموانئ والاتصال بالإنترنت والمستشفيات. إذ تهدف بكين إلى إنشاء نظام مستدام تتعاون بموجبه عشرات الدول مع بعضها البعض من أجل المنفعة الجماعية لشعوبها. وهذا ما لن يمرّ بالنسبة لواشنطن بالطبع دون محاولة الضغط الأقصى ضد خصومها، فاتحة بذلك جبهاتٍ عدة لإرباكهم.

تايوان: الضرب في خاصرة الصين

أجرت إدارة ترامب الأسبوع الماضي رابع وأكبر عمليات بيع الأسلحة لتايوان، وصفقة الأسلحة التي تبلغ قيمتها حوالي 2,2 مليار دولار من المتوقع أن تحصل على موافقة نهائية من الكونغرس في الأسابيع القليلة المقبلة حسب تقديرات الصحف الأمريكية.
من خلال تسليح جزيرة تايوان على نطاق واسع، تحاول واشنطن تشجيع الجزيرة على إعلان الانفصال عن الصين، وهي الخطوة التي كانت بكين تقول دائماً إنها ستجبرها على نشر قوات عسكرية فيها من أجل تأكيد سيادتها، لكن الصين لا تزال ترى أن السلوك الأمريكي مؤخّراً حول تايوان مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمفاوضات التجارية الجارية بين بكين وواشنطن، وقد أكدت صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية الرسمية في افتتاحيتها خلال الأسبوع الماضي: «إن موافقة الولايات المتحدة الأخيرة على مبيعات الأسلحة إلى جزيرة تايوان ستؤذي العلاقات الحساسة بين الصين والولايات المتحدة، في وقت حساس تستأنف فيه الصين والولايات المتحدة محادثات التجارة، وينبغي أن يعلم انفصاليو تايوان أنه يتم استخدامهم فقط كورقة من قبل الولايات المتحدة... الصين والولايات المتحدة تخوضان حرباً تجارية، وواشنطن تلعب بجميع أوراقها لإثارة المتاعب والضغط على الصين. إن تايوان هي واحدة من هذه الأوراق، ليس أكثر من ذلك». الملفت في الموضوع أن الطرف الأمريكي لا يوارب كثيراً في موضوع استغلاله لهذه الورقة، فخلال الشهر الماضي، نقلت وسائل إعلام أمريكية عن مصادر في البيت الأبيض قولها «إن الرئيس ترامب يفكر في استخدام تايوان ورقة مساومة في نزاعه التجاري مع الصين».
ونظرة على الأسلحة التي تباع لتايوان تطرح أسئلة عدّة. فالدعامة الأساسية لعملية البيع الأخيرة هي ذخائر لأكثر من 100 دبابة من نوع «أبرامز»، ويشير الخبراء العسكريون الصينيون، إلى أن هذه الدبابات التي يبلغ وزنها 60 طناً غير ملائمة لتايوان ذات شبكة الأنهار المعقدة والطرق الضعيفة. وبالتالي، فإن القيمة العسكرية الإستراتيجية للصفقة مشكوك فيها، لكن القيمة السياسية كبيرة، إذا كان الغرض الحقيقي هو استعداء بكين ما قبل المرحلة الجديدة من المفاوضات.
من خلال تسليح تايوان بمخزونات الأسلحة الجديدة، يكمن الخطر في أن يتبنى السياسيون الانفصاليون في الجزيرة موقفاً أكثر عدوانية تجاه بكين، ويشعرون بأنهم يتمتعون بدعم واشنطن إذا ما اندلع الصراع، حيث يمكن فهم موقف واشنطن بوصفه محاولة لتوريط كل من التايوانيين والصينيين في احتمالات تصعيد عسكري تحاول واشنطن تثميره في المفاوضات التجارية.

كشمير: استهداف لجهود «شنغهاي»

سابقاً، انضمت كل من الهند وباكستان رسمياً إلى منظمة شانغهاي للأمن والتعاون الاقتصادي في آسيا، وبانضمامهما فإن المنظمة أصبحت تشمل 40% من سكان العالم، وتنتج 20% من الناتج العالمي، وتنفق 300 مليار دولار سنوياً على الدفاع... ولكن هذا الانضمام له دلالاته التي تمتد لتشير إلى نجاح القوى الصاعدة، وهنا المقصود تحديداً كل من روسيا والصين، بتكتيف اليد الأمريكية ودفع العلاقات بين الهند وباكستان بما يسمح باستكمال العمل على المشاريع الكبرى في أوراسيا. وكانت السياسة الروسية الصينية المشتركة تدفع الأمور باتجاه خلق تحالفات كبيرة للتعاون في هذه المنطقة، بما يجعل كل المشاكل المتراكمة بين الدول «مشاكل داخلية» ينبغي أن تحل في إطار هذه المجموعات، وإذا أخذنا موضوع كشمير على سبيل المثال، كان التعويل الصيني الروسي هو أن يتم حلّه بالتفاوض بين الدولتين في إطار مجموعة شنغهاي للتعاون.
وعلى إثر الأجواء الإيجابية التي انعكست في العلاقات الصينية الهندية والعلاقات الهندية الباكستانية، لم تكفّ الولايات المتحدة عن محاولات تفجير الوضع في كشمير، بوصفها إقليماً من شأن تفجيره أن يُحدث ارتدادات سريعة على هذه العلاقات. فبالرغم من أن الصين تتخذ موقفاً محايداً من الصراع الذي انفجر مؤخراً بين الهند وباكستان، تعوّل واشنطن على أن هذا الصراع من شأنه أن يعزز مواقع القوى السياسية الهندية التي ترى في العلاقات الباكستانية الصينية الجيدة سبباً في «تمادي الهند» بما يخص كشمير.
ما ينبغي تثبيته في هذه النقطة، هو الأهمية الكبيرة التي تتمتع بها منطقة كشمير بالمعنى الجيوسياسي، بوصفها حلقة وصل ممتدة على الحدود بين كل من الصين والهند وباكستان، وفي هذا الصدد، قد يُفهم على نحوٍ خاطئ بأن واشنطن تتحالف مع باكستان ضد الهند أو ضد الصين، إلا أن الحقيقة هي أن نظرة معمقة على مسألة كشمير تساعد في الكشف عن أن واشنطن تستهدف في الواقع الدول الثلاث في آن معاً. فمن خلال التصعيد في كشمير، ستزيد فرص تدخل الهند في الإقليم، بكل ما يحمله ذلك من توتر في العلاقات مع الصين وباكستان، وسيكون الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان (CPEC) (وهو بالمناسبة المشروع الذي عملت عليه الصين من أجل تخفيف التوتر بين الهند وباكستان من خلال مفاوضات مع الهند لتحويل المشروع إلى مشروع اقتصادي ثلاثي مركزه كشمير)، مهدد بشكلٍ مباشر. ما يعني أن هدف التفجير في كشمير هو بالدرجة الأولى استهداف للمنطق الجديد لدى الدول الصاعدة لحل الخلافات، واستهداف الصين من بوابة الخلاف الهندي الباكستاني.

الجزر الثلاث وتجديد الاتفاقات

قام وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، الأسبوع الماضي بزيارة لثلاث دول صغيرة من جزر جنوب المحيط الهادئ: ميكرونيزيا، ومارشال، وبالاو، وحملت الزيارة تصعيدات كبيرة ضد الصين، حيث وصف بومبيو الدول الجزرية الصغيرة بأنها «معاقل الحرية الكبرى»، وحثها علناً على «الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة بدلاً من الصين في المنافسات الحالية من أجل السيطرة على المحيط الهادي».
أصبحت الجزر ساحة معركة مريرة بين القوى الكبرى خلال الحرب العالمية الثانية، عندما استهدفتها الولايات المتحدة في حملة «التنقل بين الجزر» ضد الإمبراطورية اليابانية التي كانت تمتلك هذه الجزر الثلاث في ذلك الوقت.
بعد الحرب، شرّدت الولايات المتحدة الآلاف من سكان جزر مارشال لإجراء اختبارات القنابل الذرية على الجزر المرجانية خلال عام 1958، ولا تزال العواقب الناتجة عن هذه الاختبارات متواصلة حتى اليوم. واستغرق الأمر ما يقرب من خمسة عقود حتى تخلّت الولايات المتحدة عن «الوصاية» على جميع الجزر، حيث صدقت جزيرة بالاو رسمياً على اتفاقية الارتباط الحر (cfa) مع واشنطن في عام 1994، وكانت قد سبقتها ميكرونيزيا ومارشال إلى توقيع الاتفاقية في عام 1986. وبموجب أحكام cfa، تعتمد الدول الثلاث على الولايات المتحدة في السياسات الاقتصادية والأمنية والدفاعية.
وهنا تأتي مخاوف واشنطن، حيث تنتهي الاتفاقات مع الجزر الثلاث في عام 2024، ولذلك، كانت زيارة بومبيو تهدف جزئياً إلى بدء المحادثات حول تجديدها، مستخدماً حديثه عن «التهديد الصيني» كجزء من عملية التفاوض هذه لإجبار الدول على تجديد الاتفاقات. لكن «جريمة» الصين تكمن في جرأتها على تقديم قروض تنموية للمناطق التي تعتبرها واشنطن مجال نفوذها الخاص. من هنا، يمكن فهم التحركات الأمريكية في هذه الجزر/الدول، بوصفها استباقاً لإمكانية انعطافها باتجاه الصين التي يمكنها اليوم أن تقدّم لها ما تحتاجه فعلاً من بنى تحتية، وإمكانات للعيش بعيداً عن التوترات العسكرية، التي تحاول الولايات المتحدة أن تزج هذه الجزر بها.

الصين لم تعد عدواً اقتصادياً فقط

بالتوازي مع التحركات الأمريكية في الجزر الثلاث، وإعلان واشنطن انسحابها من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى التي تعود إلى عام 1987، أعلن وزير الدفاع الأمريكي الجديد مارك إسبر الأسبوع الماضي خلال زيارة لأستراليا، أن بلاده تُريد الإسراع في نشر صواريخ جديدة في آسيا، خلال الأشهر المقبلة إذا كان ذلك ممكناً، «لاحتواء توسّع النفوذ الصيني بالمنطقة».
ورغم تعبير وزارة الدفاع الأسترالية عن رفضها استضافة أية صواريخ أمريكية، تواصلت المحاولات الأمريكية من خلال عقد عدد من الاجتماعات مع مسؤولين فليبينيين، انتهت إلى إعلان فليبيني مماثل بأن البلاد ترفض نشر أية أسلحة أمريكية على أراضيها. فعلى ما يبدو، ليس هنالك في شرق آسيا حتى الآن من هو جاهز لاستعداء الصين لمجرد إرضاء الولايات المتحدة، التي لا تحمل لهذه الدول أية منافع حقيقية سوى الزّج بها في معركة خاسرة مسبقاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
926
آخر تعديل على السبت, 17 آب/أغسطس 2019 15:54