(أزمة حكم) دولية… الأزمة الرأسمالية بلا إدارة
يزن بوظو يزن بوظو

(أزمة حكم) دولية… الأزمة الرأسمالية بلا إدارة

إن مراقبة الساحة الدولية المضطربة اليوم وأزمة كل بلد على حدة… تظهر المستوى العميق من أزمة أنظمة الحكم أينما كانت، فالكثير من المنظومات السياسية التقليدية التي كانت تدير الشؤون السياسية (لحكم القلّة والدول العميقة) في هذا البلد أو ذاك أصبحت غير قادرة على إعادة تجديد نفسها، أو تركيب بدائل من الثوب ذاته… وما هذا إلا تعبير عميق جديد من أزمة المنظومة الرأسمالية ككل اقتصادياً واجتماعياً وسياسيا وعلى كل الصعد.

حيث بدءاً من منطقتنا في السودان والجزائر مؤخراً، في ليبيا واليمن وسورية وفي لبنان والعراق عموماً... تظهر أزمة حكم، وعدم القدرة على إدارة شؤون البلاد سياسياً وتطبيق برنامج، وحتى محاولة حل المشاكل، وهذا قد يكون بسبب التوتر والعنف، أو بسبب استعصاء سياسي، أو لأسباب أخرى. وتمتد هذه الظاهرة أبعد من منطقتنا، فمؤخراً الكيان الصهيوني يستعصي عليه تشكيل حكومة، وفنزويلا في اضطراب، وفرنسا كذلك الأمر، وصولاً إلى المثال الأبرز في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية...حيث الانقسام العميق في النخب الحاكمة، يتحول إلى المحدد رقم واحد في الظروف الأمريكية، فالنخبة منقسمة وتعمل بمنطق (تكسير راس) والإدارة الحالية لا تستطيع التحرك قيد أنملة تجاه برنامج الإنقاذ الذي تراه، دون الكثير من العراقيل التي تصل حد العزل التي يضعها الطرف الآخر.
جميعها تُعاني منذ سنوات أزمات حُكمٍ، حيث ما من طرفٍ أياً كانت صفته وموقعه، استطاع أو يستطيع أن يحيط بزمام الأمور و«يحكم» ليدير أزمة فعلياً ولو بالحدّ الأدنى، الأمر الذي يجد تعبيراً له في انعدام الحدّ الأدنى من الاستقرار داخل هذه الدول في واحدة أو في أيّ من الصُعد السياسية أو الاقتصادية- الاجتماعية أو العسكرية. والذي يعني أن الأزمة تولّد عدم القدرة حتى على إدارتها، الأمر الذي يدفع إلى تفاقمها.

الولايات المتحدة نموذج واضح

إذا أخذنا الولايات المتحدة وأزمة حكمها كنموذج تتضح المسألة بشكل فعّال وجليّ. فحكم الولايات المتحدة كان متوافقاً على أن برنامج الخروج من الأزمة هو في السيناريو التقليدي لنشر الفوضى والحرب، وهو ما كان منذ مطلع الألفية... ولم نجد بين الديمقراطيين والجمهوريين خلافات تذكر حول سياسة الحرب الأمريكية.
ولكن تعقد الأزمة، عبر فشل هذه الخيارات في تحقيق نتائجها العميقة، وهي تأخير تقدم الآخرين، وإتاحة استمرار الهيمنة المطلقة، عمّق الأزمة... وتحول البحث عن برنامج حكم سياسي لإداراتها إلى مسألة أساسية تعكس تناقض مصالح ورؤى النخب.. وانتقلت هذه المسألة للعلن في الانتخابات الأخيرة، والصراع بين برنامج إدارة الأزمة عبر الانكفاء، وبين البرنامج الآخر، وفي العمق من البرنامجين شرائح من النخبة تبحث عن تطبيق البرنامج الذي يقلل خساراتها على حساب خسارات الطرف الآخر.
ليبدأ الاضطراب: رأس هرم الحكم العالمي الولايات المتحدة، وشرطي العالم، لم يعد بإمكانه حسم أيّ من المسائل المحلية أو الدولية دون فرضٍ يتلو معركة، أو توافقٍ ما بين تيارين داخله، توافقٌ تفرضه كفّة الميزان فيما بينهم، والتي تختلف ليس كُل دورة انتخابات، وإنما يومياً ولحظياً، حيث تجد هذه الظاهرة تعبيراً عن نفسها في التفاصيل حينما مثلاً، يُصرّح ترامب عن التوصل إلى تفاهمات واتفاقات بين واشنطن وموسكو، ثم وفي نفس اليوم يصرّح بولتون بفشل المفاوضات. أو حينما يصرّح ترامب أيضاً عن تقاربٍ مع كوريا الديمقراطية، ويعلن الثاني ذاته في المثال السابق بعكس ذلك.
إنّ هذه المُتغيرات والتفاعلات تنعكس إيجاباً على ميزان القوى الدولي الجديد، وتحمل تأثيراتها على قدرة أنظمة الحكم الأخرى التابعة عبر العالم على الإدارة، دون دعم ودور المركز الأمريكي.
فراغ الحكم الدولي المركزي يتسع، ويترك حلفاءه في حالة تخبط في الحكم، وفي مواجهة موازين جديدة محلية وإقليمية ودولية... ستطرح موضوعياً بدائلها.

الميزان الدولي الجديد وأزمات الحكم

أدى الاهتزاز والتراجع والانقسام داخل الإدارة الأمريكية والعلاقات الدولية إلى انتقال «أزمة الحكم» لتصبح ظاهرة عالمية، فأوروبياً بما يخصّ الاتحاد ككيان موحد تجد لنفسها تعبيراً في مسألة «البريكست»، وفي خلافاته مع واشنطن التي تجري المساومة والمهادنة عليها تارة، وتارة أُخرى يحدث فيها تصعيد بلا أي توافق أو اتفاقٍ واضح. وبداخل دول أعضائه، نجد في بريطانيا أزمة حُكم واضحة بين برنامج تجاوز منظومة الحكم القديمة، ليظهر طرح الخروج من الاتحاد الأوروبي، ويحاول طرح آخر الاستمرار، وينتهي على الأقل نموذج الحزبين السابق دون رجعة، ودون أن يتشكل نظام حكم مستقرّ وجديد. وفي فرنسا كذلك، لم تنجح طريقة إدارة أزمة الحكم باختراع وتركيب حزب ماكرون من خارج البنى التقليدية الحزبية، في منع الشارع من التصعيد إلى حد يهدد استمرار الحكم، ويوضح الفشل السريع للبديل المصطنع الذي شكلته وأوصلته للرئاسة النخب الحاكمة. ليتبين بأن هذه المناورة السياسية الفرنسية الذكية، لم تُجدِ نفعاً مع تعمق التناقضات الاجتماعية التي لا تستطيع أن تحتمل تصعيداً في الليبرالية ومحاباة الأثرياء.
وإذا ما بدأنا بالتوسّع أكثر نرى في تركيا أمراً مشابها يُعبّر عن نفسه بين تيارين، ونرى أن محاولة الانقلاب كانت ستقود إلى أزمة حكم عميقة في تركيا، لم تصل إليها تماماً، ولكنها لا تزال تعاني من آثارها وتفرض تناقضات النخب التركية، شكل حكم الدولة التركية الحالية، وتهدد جدياً بتصعيد في الأزمة السياسية. وفي منطقتنا فإن أزمة الحكم تظهر في أن المنظومات المتخلفة السابقة أصبحت غير مقبولة، وغير قابلة إلّا على إنتاج الغضب والفوضى، وإن لم تكن انقساماتها ظاهرة للعلن، إلا أنها تعاني أزمة حكم بشكل آخر.

أزمات حُكم- أزمة رأسمالية أعمق

تعكس هذه الظاهرة بانتشارها المتزايد وبتطورها، تعمّق الأزمة الرأسمالية نفسها، حيث لم يعد باستطاعة أيّ من التيارات السياسية الرأسمالية ليبرالية كانت أم محافظة أم تقليدية، أو وفق ما يعنوه هم من «يمين ويسار»، عن إدارة الأزمة أو معالجتها أو حتى احتوائها أو التنفيس عنها، بدءاً من واشنطن ومروراً بكلّ ما سبق ذكره، سوى محاولات تنظيم التراجع وتقليل الخسائر تلك... لكن حتى هذه الأخيرة أدخلت الرأسمالية في مأزقٍ أنتج تفاعلاً أكبر بتناقضاتها الداخلية، فأوجدت تغيّرات دولية وسياسية نتج عنها توازنٌ جديد، وضغوط اجتماعية نتج عنها موجات تحركات شعبية عالمية بدءاً ممن «اجتاحوا وول ستريت» وليس انتهاء بـ«حركة السترات الصفراء» مروراً بكل الموجات في البلاد العربية وغيرها. الأمران اللذان يُسرّعان عملياً من وصول الأزمة لذروتها، وانفجار فقاعتها قبل أن يكون باستطاعة أيّ أحد من تنفيسها.
إنّ هذا الأمر بمجمله وعمومه، بغياب أيّة مخارج أو حلول واستمرار وتعاظم «أزمات الحكم»، مع ما تصنعه من ضغوطٍ بتطورها، وقلقلة في أدوات ووسائل الحماية والقمع، تُقرّب عملياً ولادة البدائل التي سوف تُطيح بهذه المنظومة برمّتها وأشكالها المختلفة دولياً، ولادة بدأتها الشعوب بتحركاتها ولن تهدأ إلا بإتمامها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
918
آخر تعديل على الإثنين, 17 حزيران/يونيو 2019 13:07