«كلام حق»... ولكن!

«كلام حق»... ولكن!

ظهرت في الآونة الأخيرة أحاديث متعددة حول دخول قسد إلى مسار جنيف لحل الأزمة السورية من بوابة هيئة التفاوض، ومن ذلك مقالة نشرت مؤخراً في الشرق الأوسط السعودية.

إنّ تمثيل جميع أطياف المعارضة السورية ضمن مسار جنيف هو حق طالما نادت به منصة موسكو، بل وأكدت بشكل خاص على ضرورة تمثيل الاتحاد الديمقراطي، حتى في ذلك الوقت الذي لم يبدُ فيه أن الاتحاد نفسه مهتم بهذا التمثيل! ولكن أياً يكن من أمر فإنّ تمثيله، وتمثيل القوى العديدة الموجودة في الجزيرة السورية هو أمر ضروري ولا بد منه، ولا يعترض عليه ويقف في وجهه إلا رافضو الحل السياسي.
رغم ذلك، فإن «كلام الحق» الذي يثار حالياً حول المسألة، جاء في سياقات تجعل ما يراد منه باطلاً بيّناً يظهر في النقاط التالية:

الفيتو..

إنّ الإصرار على إلقاء مسؤولية تغييب قسم من القوى السياسية المعارضة عن جنيف على عاتق تركيا وحدها- وهي لا شك مساهم فعالٌ في ذلك- يهدف إلى إعفاء المسؤول الأساسي عن الفيتو؛ واشنطن. ويأتي هذا الإصرار منسجماً مع مجمل المواقف المنبطحة للغربي والأمريكي والموجودة لدى أكثر من طرف سوري...
الأشد سوءاً من ذلك، هو: أنّ الأمريكي هنا لا يجري إعفاؤه من تغييب قسم من الكرد السوريين عن جنيف فحسب، بل ويجري إعفاؤه ضمناً من محاولات التلاعب بهم ومحاولات استخدامهم كأوراق لمنع الحل السياسي، وصولاً إلى المتاجرة بالتضحيات الكبرى التي قدموها ضمن بورصة الوعود الأمريكية الكاذبة، التي لم يعد مفهوماً تصديقها إلا من أحمق أو عميل.

جنيف نقيضٌ لأستانا!

إنّ جنيف الذي يقول البعض إنهم يرغبون بالالتحاق به، هو نمط محدد من جنيف؛ النمط القائم على الأنقاض المفترضة (بل والمشتهاة) لأستانا. إنّ تصوير الأمور على أن هنالك تناقضاً بين مساري أستانا وجنيف، هو ديدن الأمريكي وأتباعه و«حلفائه»، والكلمتان الأخيرتان لهما المعنى نفسه؛ على الأقل من وجهة نظر الأمريكي. وهذا الأمر عبّر عنه جيفري وضوحاً أواخر العام الماضي عندما «بَقّ البحصة» وطالب بإنهاء مسار أستانا، قبل أن يتلقى صفعة إعلان ترامب عن الانسحاب، التي أسكتته أشهراً متتالية، ولم يكن وحده من آلمته تلك الصفعة!
الموقف السلبي من مسار أستانا، ينسحب بطبيعة الحال على الموقف من سوتشي ونتائجه، والذي جرى قبوله اضطرارياً ضمن المراحل نفسها التي مرّ بها الائتلاف «التركي الخالص» حسب تقييم البعض الذي رفض بداية، بل وحارب من تحت الطاولة، ثم أرغم في النهاية على القبول، وبات «راغباً» وحتى «مطالباً» بالمشاركة في المسار الدستوري، والرغبة والمطالبة بين أقواس، لأنهما مؤقتتان تتغيران وفق الظروف؛ ولعل الأفضل أن نقول: إنهما تتحيّنان الظرف المناسب للعودة إلى موقف الرفض والإعاقة لتخريب وقتل أي أمل في الحل؛ وهذا ما بدأت علاماته تظهر خلال الأسبوع الأخير بالتوازي مع ما يجري في إدلب، حيث لم تعد هنالك عملية سياسية من وجهة نظر البعض، ولم يعد للجنة الدستورية (التي باتت على الأبواب) أية قيمة... وإلخ.
إنّ مسار أستانا، وهو المسار الوحيد الذي حقق نتائج على الأرض حتى الآن، كان ولا يزال داعماً أساسياً وأداة أساسية لمسار جنيف، بما يعنيه من تطبيق شامل للقرار 2254، وليس جنيف بوصفه مكاناً للعبث وتأجيل الحل وتعميق الكارثة كما يريد له الأمريكيون أن يكون، وأولئك الذين لا يخفون معارضتهم لأستانا، أو أنهم يتعاملون معها على مضض ظاهر بوصفها أمراً واقعاً، هم أنفسهم، وأياً تكن الجهة التي ينتمون إليها شكلياً، هم في نهاية المطاف معادون لـ2254، وإنْ تعددت أسبابهم ومصالحهم، أو تقاطعت، أو حتى تطابقت، في كثير من الأحيان!

التوقيت والغايات

بما أن الانطلاق من النوايا الحسنة عند من أثبتت نظرياتهم المختلفة، السياسية منها و«الرياضية»، وقوفهم ضد مصالح أهلهم، هو طريق مضمون نحو جهنم، فإنّ فهم النوايا الحقيقية ضرورة لا بدَّ منها.
ليس خافياً حجم التخبط الأمريكي خلال الأشهر الأخيرة ضمن ملفات عالمية مختلفة، وضمن الملف السوري خاصة، وتحديداً بعد زيارة بومبيو إلى سوتشي ولقائه بلافروف ثم بوتين وإعلانه عن الوصول إلى تفاهمات مثمرة فيما يخص سورية.
ليس خافياً أيضاً، الانقسام الأمريكي العميق بين من يقرّ بواقع الهزيمة الأمريكية والغربية في سورية، ويسعى للخروج بأقل الخسائر الممكنة، وبين الجزء الفاشي الذي يحاول إعادة رسم الخطط ضمن المسار السياسي الذي فرضه التيار الأول عبر التفاهمات الأخيرة مع الروس.
بكلام أكثر وضوحاً: إنّ شكل التمثيل المعارض اليوم، والذي لطالما كان بقسم أساسي منه (ونقصد بأساسي بمعنى التمثيل ضمن البنى المعارضة وليس الأساسي بمعنى التمثيل الشعبي، لأنه بالكاد يملك أي تمثيل)، خاضعاً للأمريكي والأوروبي، بات اليوم مهدداً، وبالضبط فإنّ مواقع أزلام الأمريكي، باتت مهددة بشدة.
بالتوازي مع ذلك، فإنّ قوة وفعالية مسار أستانا، ودرجة تأثيره الكبيرة على مجمل الملف السوري، باتت تخنق الفاشية وطموحاتها في استمرار النزيف باستخدام المتشددين من الأطراف المختلفة.
ضمن هذه الخارطة، وتحت الخطر الكبير الذي يتهدد السيطرة الأمريكية- الغربية على الأطر المعارضة، بات من الضروري من وجهة نظر البعض (عبر دعوات أمريكية وخليجية) أن يعاد خلط أوراق تمثيل المعارضة وشكله وتناسباته، وبالسرعة القصوى، لكي يجد أتباع الأمريكي ضمن التشكيلات الحالية من يسندهم وينجيهم من العزل الذي بات يلوح في الأفق، ولكي يتحول التوسيع الضروري والمحق والمطلوب في طريقة وشكل تمثيل المعارضة إلى أداة لا لتعزيز الحل السياسي، بل على العكس من ذلك لأداة لتخريبه وتأخيره لتمديد الاستنزاف لأطول مدى، حتى يصبح من الممكن أن يتحقق الطلب الأمريكي المتمثل بـ «تغيير السلوك» فقط لا غير؛ أي: بتكريس التبعية الاقتصادية، وبتكريس الفوضى طويلة الأمد، ومنع انتقال سورية، ومعها المنطقة بأسرها، نحو استقرار حقيقي مبني على الاستقلال الكامل ضمن منظومة علاقة دولية جديدة تكفل حق الشعب السوري في تقرير مصيره...
ما يمكن التعويل عليه بشكل جدي، إضافة إلى وضوح اتجاه سير التوازن الدولي، هو: أنّ هذا التوازن نفسه، والضعف المزمن الذي يعانيه الأمريكي ضمنه، انتقل إلى صفوف عملائه وأُجَرائه في الأطراف المختلفة؛ فبالرغم من أن هؤلاء العملاء يشغلون مواقع متقدمة، إلّا أنهم باتوا معلَّقين في الهواء، وباتت عملية عزلهم أقرب منالاً من أي وقت مضى...

معلومات إضافية

العدد رقم:
916
آخر تعديل على الإثنين, 03 حزيران/يونيو 2019 16:02