من دروس الحركة الشعبية في طورها الأول
سعد صائب سعد صائب

من دروس الحركة الشعبية في طورها الأول

تقف الحركة الشعبية، ليس في سورية وحدها، بل وفي العالم أجمع، على عتبة الدخول في طور جديد ميزته الأساسية أنه محمل بخبرة التجربة السابقة، بمراراتها وقسوتها، وبأخطائها قبل نجاحاتها.

إنّ قليلي البصيرة هم فقط من ظنوا، خلال بضع سنوات مضت، أنّ كل شيء قد انتهى، وأنّ الشعوب ستعود لحالة السبات. لكن قوانين التاريخ و«تجاعيده التي لا تبتذل ابتذالاً» كما يقول فيكتور هوغو، تعيد التأكيد على قوتها ونفاذها عبر اندفاعة جديدة للحركة الشعبية؛ في فرنسا والسودان وفلسطين والعراق والجزائر وسورية...، وفي كل العالم، ولكن هذه المرة بدرجة تنظيم أعلى، وبوعي سياسي أكثر نضجاً وقوة.
على عتبة الطور الجديد القادم بلا شك، لا بد من محاولة تكثيف الدروس والخلاصات الأكثر أساسية التي دفع الشعب السوري خاصة، ثمنها غالياً وغالياً جداً...

أولاً: جوهر الحركة الشعبية

إنّ تراكم المشكلات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عبر عقود، تراكم الظلم والفقر والبطالة والتهميش والنهب والفساد الكبير والتوزيع الجائر للثروة الوطنية، هذه كلها وتراكمها، هي السبب الأساسي في انتزاع الناس من سباتها السياسي ودفعها نحو التحرك.
هذه الجذور مجتمعة ليست أسباب انطلاق الحراك فحسب، بل هي جوهره؛ أي: أنّ الحراك سيستمر حتى يقتلع تلك الجذور، ولن ينفع معه لا قمع ولا إرهاب ولا تدخلات خارجية، هذه كلها يمكن أن تؤخر، يمكن أن ترفع الكلفة، ولكنها لن تنهي الحراك.

ثانياً: أشكال الحركة الشعبية

أولئك الذين حاولوا تنميط الحركة الشعبية وتقليصها إلى شكل واحد هو المظاهرات (على أهميته)، أو حتى الذين كانوا مقتنعين بأن هذا هو الشكل الوحيد، هم أنفسهم الذين وصلوا لاستنتاج خاطئ بأن الحركة انتهت حين انحسرت المظاهرات وحلت محلها الحرب. لكن من يفهم جوهر الحركة يعلم أنها نشاط سياسي عالٍ للمجتمع يعبر عن نفسه بأشكال شتى ابتداء من الأحاديث والنقاشات التي تخاض في البيوت المغلقة، وصولاً إلى مختلف أشكال النشاط التي تجري في الساحات المفتوحة، سواء كانت تلك فضاء إلكترونياً أو أماكن عمل وإنتاج أو ساحات وشوارع بالمعنى الحرفي، وعليه فإنّ أشكال الحركة الشعبية متنوعة تنوعاً هائلاً، وانكفاء شكل من أشكالها لسبب أو لآخر يعني بالضبط: ازدياد الزخم ضمن الأشكال الأخرى بانتظار ظروف أفضل لأشكال أوسع من السابق وأكثر جدة وإبداعاً.

ثالثاً: السلمية والسلاح

أحد أخطر المزالق التي أثخنت الحركة الشعبية جراحاً، بالتوازي مع القمع المنظم الذي تعرضت له، هو انحراف جزء منها باتجاه التسلح. ولعل من المهم التذكير هنا أن ذاكرة الشعب السوري قوية جداً ولن تنسى أولئك الذين دفعوا بهذا الاتجاه أياً تكن التبريرات التي ساقوها، أولئك أنفسهم الذين يدجلون اليوم من منابر مختلفة أنهم ما كانوا دعاة سلاح ولا دعاة تدخل خارجي ولكنهم اضطروا لذلك بسبب قمع النظام، وكأن حمل السلاح قد منع القمع أو خفف منه! ومن المهم أيضاً: أن الشعب السوري لن ينسى أيضاً الذين وقفوا ضد حمل السلاح من مواقع المعارضة وتحملوا شتى أشكال الهجوم عليهم.
إنّ السلمية اليوم هي الشرط الأساسي لنجاح الطور الثاني من الحركة الشعبية، وإمكانات القمع ستنخفض موضوعياً، إن لم تكن قد انخفضت فعلاً.

رابعاً: الثنائيات الوهمية

بين الآفات التي أصابت الحراك الشعبي، محاولات تقسيمه على أسس طائفية ودينية وقومية، وعلى أساس «موالٍ» و«معارض»، والنتيجة كانت أنّ الفقراء والمنهوبين من الجهتين زادوا فقراً وزاد الجور والظلم الواقع عليهم أضعافاً مضاعفة... إنّ إدراك الثنائية الحقيقية يشق طريقه بثبات إلى عقول وقلوب السوريين أياً كانت المواقع التي وقفوا فيها خلال السنوات الماضية، هنالك ناهبون وفاسدون كبار ومتسلطون قمعيون موجودون في النظام وفي المعارضة على حد سواء، ويخدم بعضهم بعضاً ويتصارعون بدماء السوريين للوصل إلى انتصار أحدهما، أو إلى تقاسمٍ للنهب فيما بينهما، ولكنهما متفقان على أن الشعب السوري ينبغي أن يبقى مقموعاً ومنهوباً، وهذا ما بينته التجربة الواقعية التي عاشها السوريون في مناطق سورية المختلفة، وعبر ظروف الأزمة المختلفة.
في مقابل هؤلاء هنالك صف عريض من المنهوبين العابرين لـ«موالاة» و«معارضة» وطوائف وعشائر وقوميات وأديان... هؤلاء هم أصحاب المصلحة في التغيير وعليهم وضع أيديهم بأيدي بعضهم البعض ضد ناهبيهم للوصول إلى التغيير؛ هذا هو المعنى الوحيد الحقيقي لفكرة المصالحة الوطنية.

خامساً: الدعم الخارجي

تخيلت أطراف متنفذة من على جانبي المتراس، ولوقت طويل، أن الخارج يمكن أن يدعم مصالحها ويقوي مواقعها على حساب خصومها المحليين، ولكن الوقائع باتت تتضح بأنّ أحداً من الداعمين الخارجيين لم يكن يهمه دعم تلك الأطراف المتنفذة، بل هنالك مشروعان كبيران بالمعنى الدولي أحدهما: ضد سورية وشعبها بأكمله، وضد وجود سورية من الأساس وضد دورها، وهنالك من مصلحته الوطنية، مصلحة الدفاع عن بقائه تتطلب استقرار سورية، وهذا الاستقرار لا يمكن أن يستمر ببقاء الظلم.
إنّ الكذب والنفاق الغربي بات مفضوحاً أمام السوريين إلى ذلك الحد أن من بقي منبطحاً لسياسات الغرب اليوم هم فقط موظفوه المباشرون، وأما عموم الناس فما عاد ينطلي على أحد منهم كلام الغرب والأمريكان تحديداً.
في مقابل ذلك فإنّ المعسكر صاحب المصلحة الحقيقية في استقرار سورية، وعلى رأسه روسيا والصين، قد أثبت أنه صادق فيما يقول ويفعل، وتمكن من تخفيض الوزن الغربي إلى حدوده القصوى عبر الإصرار على الحل السياسي والقرار 2254 وعبر إنشاء مسار أستانا- سوتشي الذي صمد وسار قدماً رغم كل محاولات عرقلته وبث الشقاق في صفوفه.

سادساً: التنظيم والتمثيل السياسي

بين الأخطاء التي لن تتكرر، تلك التي فُرض من خلالها على السوريين تمثيلات سياسية محددة، ابتداء بالمجلس الوطني ومروراً بالائتلاف ووصولاً إلى هيئة التفاوض بنسخها المختلفة، وقد أثبتت الوقائع والمواقف أن قسماً كبيراً من هؤلاء لم يكن أكثر من ممثل لمصالح خارجية في سورية، أو في أقل الأحوال سوءاً ممثلاً لمصالح نخب مالية تحاول منازعة النخب المالية المتحكمة بالبلاد على نهبها، وآخر همها الشعب السوري ومصالحه وحقوقه.
إنّ الوصول إلى تمثيل سياسي حقيقي للحركة الشعبية، لن يجري في يوم وليلة، بل هو عملية تاريخية ستأخذ وقتها ومداها، ولكنها تبدأ حكماً بإزاحة التمثيلات الوهمية البالية، ليحل محلها تمثيلات جديدة أقل وهمية وأكثر قرباً من الحقيقة، وصولاً للتمثيل الحقيقي، وعبر عملية الحل السياسي وخلالها وبعدها... وضمن هذه المراحل كلها ستعود الحركة الشعبية لتقديم قيادات جديدة من صلبها، تقدمها وتختبرها وتبدلها حين تحيد عن الدرب، وبكلمة فإنها ستزداد تنظيماً بشكل مستمر.

سابعاً: برنامج التغيير

حرص المزاودون والراغبون بدفع الأمور نحو التفجير، على التقليل من أهمية الشعارات المطلبية والاقتصادية الاجتماعية وحتى السياسية، وأصروا على اختصار الشعارات بشعار الإسقاط، دون أي حديث عما يجب بناؤه، لأن الغرض كان «تداول السلطة» بين الناهبين، وإبقاء المنهوبين على حالهم، إضافة إلى أن هدف الغرب كان ولا يزال تفجير سورية وتخريبها كصاعق لتفجير المنطقة ككل وصولاً إلى روسيا والصين.
إنّ امتلاك الناس لبرنامج التغيير الشامل، بمناحيه المختلفة، الاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية والوطنية، هو الصراط الذي يجمعها ويقويها ويمنع ضربها ببعضها بعضاً، ويمنع التلاعب بها، وفي هذا السياق في المدخل الدستوري من شأنه أن يفتح الباب واسعاً أمام النقاش العام والتفصيلي لبرنامج التغيير، وسيفتح الباب لإعادة اصطفاف السوريين على أساس مصالحهم الحقيقية في وجه ناهبيهم، كخطوة ضمن استعادة سورية لسيادتها وقرارها، في سياق التنفيذ الشامل للقرار 2254؛ سيادتها، أي: سيادة الشعب السوري!

معلومات إضافية

العدد رقم:
905
آخر تعديل على الإثنين, 18 آذار/مارس 2019 12:33