ما لا تقوله الـmass media  حول طوارئ ترامب

ما لا تقوله الـmass media حول طوارئ ترامب

تضج «وسائل الإعلام الجماهيري» الأمريكية والغربية عموماً، أو ما يسمى mass media، والتي تدار في نهاية المطاف من التكتلات المالية الكبرى، بكم هائل من التحليلات المتعلقة بأسباب إعلان ترامب عن حالة الطوارئ الوطنية، وبأهدافه والتبعات المتوقعة، ولكنها كعادتها، وعبر كم الضخ الهائل الذي تقدمه، تخفي جوهر الأمور وتعمل على تسطيحها...

«تمويل الجدار»


ينص الدستور الأمريكي في مادته الأولى القسم التاسع البند السابع على ما يلي: «لا يجوز أن تسحب أموال من الخزينة إلا تبعاً لاعتمادات يحددها القانون، وتنشر من حين لآخر، بيانات دورية بإيرادات ونفقات جميع الأموال العامة وبحسابها». وبما أنّ الدستور يحدد أن الاعتمادات ينبغي أن يحددها القانون، ومن يضع القوانين في الولايات المتحدة هو حصراً السلطات التشريعية (أي: الكونغرس بالدرجة الأولى ومجلس الشيوخ بالدرجة الثانية وبالتوافق مع الكونغرس)، فإنّ أية اعتمادات مالية لأي غرض من الأغراض ينبغي أن تمر عبر الكونغرس، ولا يمكن لرئيس الولايات المتحدة أن يتحكم لا بحجم الاعتمادات ولا بكيفية وأوجه صرفها.
قبل إعلان حالة الطوارئ، كان ترامب قد طلب من الكونغرس تخصيص اعتماد قدره 5,7 مليار دولار لبناء الجدار، ويوم الخميس الفائت أقر الكونغرس اعتماداً للغاية نفسها قدره 1,375 مليار دولار، وبعد قرار الكونغرس أعلن ترامب أنه سيصادق على قرار الكونغرس، ولكن سيعلن حالة الطوارئ بالتوازي مع ذلك.
ضمن الحسابات الأمريكية، يبدو الفارق (4,3 مليار دولار) هزيلاً حقاً، إذا وضعنا في الحسبان أن الدَّين العام الأمريكي يزداد كل دقيقة بمقدار 1,13 مليون دولار تقريباً، أي: أن الفارق بين الفاتورتين يحتاج لكي يتراكم ديناً عاماً أمريكياً إلى يومين ونصف فقط لا غير!
ولكن مع ذلك، يبقى هنالك فارق بين الحالتين، فالمبلغ نفسه 1,375 مليار دولار الذي اعتمده الكونغرس، سيكون تحت تصرف ترامب بشكل مباشر مع إعلان حالة الطوارئ، وسيكون من حقه أن يحدد أوجه صرفه، ولكن قطعاً ليست هذه هي المسألة فالحديث لا يزال عن مبلغ هزيل.


«ميزانية الدفاع»


الحساب المالي الأهم في إعلان الطوارئ لا يتعلق إطلاقاً باعتمادات الكونغرس، بل بالصلاحيات التي يمنحها قانون الطوارئ للرئيس في وضع يده على ميزانيات ضخمة في مؤسسات عديدة ضمن الدولة، ربما أهمها هي ميزانية البنتاغون «المعلنة» التي تصل إلى 800 مليار دولار... وغيرها.


«تاريخ الطوارئ»


الأكثر أهمية حتى من المبالغ الضخمة التي يمكن لترامب وإدارته التحكم بها بعد إعلان الطوارئ، هو أنه بات يجمع بالمعنى العملي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، متحولاً إلى ديكتاتور كامل المواصفات: (يملك ويحكم)، وهو التحول الذي مهدت له سلسلة من القوانين ابتداء من إقرار قانون الطوارئ نفسه عام 1976.
الحقيقة التي لا تقال كثيراً حول حالة الطوارئ، حتى في خضم الصراع الجاري حولها، هي أنّ حالة الطوارئ جرى إعلانها في الولايات المتحدة ابتداء من 1976 وحتى اليوم 59 مرة! وبين هذه الحالات لا تزال 32 حالة طوارئ فعالة، ويجري التمديد لها سنة بعد آخرى... فما الجديد في إعلان ترامب الأخير؟
بين حالات الطوارئ الوطنية الـ58 السابقة، جرى إعلان حالة الطوارئ مرة واحدة في شأن يتعلق بأزمة داخلية، وكان ذلك عام 2009 للتصدي لانتشار فيروس H1N1 أو انفلونزا الخنازير. وإعلان ترامب هو الحالة الثانية، ولكن هذه المرة في أزمة لا من النوع الصحي بل أزمة من نوع «الأمن القومي»...


«Law & Order»


قبل إقرار قانون الطوارئ، والتعديلات المرافقة له، أطلق نيكسون خلال توليه الرئاسة بين 1969- 1974 «حرباً شاملة لفرض «النظام والقانون» ضد العدو الأول للولايات المتحدة: المخدرات»... وليست مصادفة أن يعيد ترامب استخدام العبارة ذاتها «Law & Order» خلال حملته الانتخابية وخلال رئاسته. تعمقت الحرب بعد ذلك بشكل هائل (وبالتوازي مع تكريس النيوليبرالية الاقتصادية على كل الصعد) خلال فترتي رئاسة رونالد ريغان بين 1981- 1989 ومن ثم مع بوش الأب، وصولاً إلى بوش الابن... أفضل تعبيرات عن جوهر تلك الحرب التي لم تتوقف حتى الآن، هي الشواهد والحوادث التالية التي نادراً ما يجري الحديث عنها في الـmass media:
«حملة نيكسون الانتخابية خلال 1968، ومن ثم فترة توليه للرئاسة، كان لديها عدوان: اليسار المعادي للحرب، والسود. كنا نعلم أنه لا يمكن لنا قانونياً أن نشن حملة ضد السود أو ضد معارضي الحرب، لكن عبر دفع عامة الناس للربط بين هذين الاتجاهين، الأول: مع الهيبية والماريجوانا، والسود مع الهيرويين، ومن ثم تجريمهما بشدة، يمكننا إثارة الفوضى ضمن صفوفهما: نستطيع اعتقال قادتهم، مداهمة منازلهم، نوقف اجتماعاتهم، وشيطنتهم ليلة بعد أخرى في نشرات الأخبار. هل كان لدينا عِلم بأننا كنا نكذب بما يخص المخدرات؟ بالطبع كنا نعلم» جون إيرليشتمان مسؤول حملة نيسكون الانتخابية.
ارتفع عدد السجناء في الولايات المتحدة من 357 ألف عام 1970 إلى 514 ألف عام 1980، إلى 759 ألف عام 1985 إلى 1,179 مليون عام 1990، إلى 2,3 مليون سجين عام 2014، الولايات المتحدة التي تحوي 5% من سكان العالم بات لديها الآن 25% من السجناء حول العالم!
نوعا المخدرات الأكثر رواجاً كانا الكوكايين والكراك، الكراك هو المنتج «الشعبي» والرخيص من الكوكايين. أقر الكونغرس قوانين عقوبات لكلا النوعين بفارق صغير: عقوبة حيازة أونصة من الكراك، تعادل عقوبة حيازة 100 أونصة من الكوكايين.
في نيسان 1989 أطلق ترامب حملة عنيفة لإيقاع عقوبة الإعدام بثمانية فتيان سود تم اتهامهم باغتصاب فتاة بيضاء في قضية شهيرة عرفت بـ Central Park jogger case يسان 1989 أيد ترامب بشدة إيقاع عقوبة الإعدام بثمانية فتيان سود تم اتهامهم باغتصاب فتاة بيضاء في قضية شهيرة عرفت بـاً إلى ديكتات، والنتيجة هي حبس المتهمين لفترات تراوحت بين 6- 11 سنة... بعد إدخال تقنيات الحمض النووي إلى التحقيقات الفيدرالية ثبتت براءة المتهمين جميعهم!


جوهر المسألة


الشواهد والأمثلة السابقة، هي مجرد إشارات أولية من شأنها أن تحرر التفكير من الفضاء الضيق (التشريعي والمالي) الذي يجري استعراض وتفسير حالة الطوارئ الجديدة ضمنه.
إذا أردنا قول الأمور كما هي حقاً يمكننا تكثيفها بالأفكار التالية:
إعلان الطوارئ يعكس حالة انقسام كبير ضمن النخبة الحاكمة الأمريكية، والانقسام نفسه يعكس حجم الأزمة العميقة التي تعيشها الولايات المتحدة ككل، والأزمة الاقتصادية بالدرجة الأولى.
الولايات المتحدة كبلد إمبريالي نموذجي، عاشت طوال القرن العشرين على الحروب، الخارجية منها والداخلية، وكلما كانت تتقلص إمكانية شن حرب خارجية، كانت الحرب الداخلية تشتد وتغدو أكثر عنفاً... مع وجود التوازن النووي خاصة بات شن الحروب أصعب، وجرى الانفلات من ذلك مؤقتاً خلال التسعينيات والعقد الأول من القرن الجديد، ولكن عادت الأمور إلى نصابها بمعنى الردع مع النهوض الجديد لروسيا والصين، والحصار المتزايد على إمكانية شن الحروب.
المستهدف الأول بالحروب الداخلية كان الطبقات الأدنى اقتصادياً و»عرقياً»، أي: السود وذوو الأصول اللاتينية والآسيوية... وإلخ.
المكسيك والمهاجرون ليست سوى ذريعة لإعلان الطوارئ الحالي، وجوهر المسألة هو تهيئة الأرضية القانونية الشكلية لشن حرب شعواء في الداخل الأمريكي ضد الفقراء كل الفقراء، استجابة لضرورات الإنفاق العسكري والحكومي عموماً، ضمن اقتصاد يعيش تراجعاً حاداً، اقتصاد موعود قريباً بصدمة مالية كبرى لن تتوقف عند الحد المالي...


جوهر الجوهر


إعلان الطوارئ الذي أطلقه ترامب، ليس منفصلاً أبداً عما قاله قبل ذلك ببضعة أيام: «أميركا لن تكون أبداً بلداً اشتراكياً»!

 

آخر تعديل على الإثنين, 18 شباط/فبراير 2019 12:29