«INF» vs. «NATO»
مالك أحمد مالك أحمد

«INF» vs. «NATO»

وقعت معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى The Intermediate-Range Nuclear Forces Treaty - عام 1987 بين الاتحاد السوفييتي من جهة وبين الولايات المتحدة الأمريكية من الجهة الثانية، واختصت بمنع الطرفين من استخدام وتطوير الصواريخ ذات المدى بين 500- 5500 كم، ومنعت بشكل خاص وجود أية قواعد برية لإطلاق مثل هذه الصواريخ.

القطبة المخفية في مسألة القواعد البرية، كان المقصود منها عدم تقييد قدرة الأمريكان على نصب منصات الصواريخ المتوسطة على متن أساطيلها البحرية، ما يعني أن المطلوب كان منع الاتحاد السوفييتي فقط من إمكانية استخدام مثل هذا النوع من الصواريخ، وهو ما دفع العديدين إلى اعتبار توقيع هذه الاتفاقية من جانب غورباتشوف خيانة عظمى.
وبغض النظر عن صحة هذا التقييم، فإنّ الروس لم يعدموا الوسيلة لمنع الأمريكان من الالتفاف على المعاهدة، فقد لجؤوا إلى نصب الصواريخ المتوسطة المدى على زوارق صغيرة توزعت في نواحٍ مختلفة من روسيا الغنية بالأنهار...
رغم هذا وذاك، فإنّ الأهم في قراءة المعاهدة، هو أنّ الظرف الدولي الذي جاءت ضمنه، وما تلاه من تطورات بسقوط الاتحاد السوفييتي، قد نزعت فتيل اضطراب مستمر بين روسيا وأوروبا، الأمر الذي مهد الأرضية، خلال التسعينات وخلال العقد الأول من الألفية الجديدة، إلى تحسن متواتر في العلاقات بين الجانبين. وهو ما أضعف كمحصلة، ليس دور الناتو في أوروبا فحسب، بل وأضعف الحاجة إلى وجوده من الأساس من وجهة نظر الأوروبيين؛ أهم مؤشرات ذلك هو عدم التجاوب الأوروبي مع الطلبات المتكررة من الأمريكان لرفع نسبة مساهمة أعضاء الناتو في التمويل.
بكلام آخر، فإنّ أحد المقاصد الأساسية للولايات المتحدة من الانسحاب من المعاهدة، ومن الدفع نحو سباق تسلح علني بين البلدين الأقوى عسكرياً في العالم، وتحديداً من باب الصواريخ المتوسطة المدى، هو وضع أوروبا من جديد كمنصة للعداء الأمريكي تجاه روسيا، الأمر الذي سيسمح للأمريكان بضغطٍ وابتزازٍ بحدود قصوى للأوروبيين لإعادة تفعيل الناتو، ولإعادة ضخ الأموال فيه... إضافة إلى الهدف الأكثر إستراتيجية المتعلق باصطناع عراقيل كبرى في وجه المشروع الأوراسي الذي يشمل ليس روسيا وأوروبا فحسب، بل والصين أيضاً (التي يستهدفها أيضاً الانسحاب من المعاهدة، وخاصة مع القفزة الهائلة التي حققتها خلال السنوات الأخيرة في المجال العسكري، والتي باتت تهدد بإضعاف شديد للنفوذ الأمريكي في محيطها، إنْ لم نقل بإلغائه نهائياً) العائق الموضوعي الأكبر أمام الأماني الأمريكية، لن يكون، الحكومات الأوروبية التي لم تظهر خلال سنوات عديدة ماضية أي موقف مستقل بشكل جدي عن الإرادة الأمريكية، (رغم أن بعض ملامح الاستقلالية قد بدأت بالظهور، لكن التعويل عليها وحدها ليس أكثر من وهم).
العائق الموضوعي هو: أنّ هذه الحكومات إنْ قررت السير في الركب الأمريكي، وما يتطلبه هذا السير من دفع جِزية ضخمة للناتو، ومن توتير للعلاقات مع روسيا، مع كل ما يحمله هذان الأمران من عواقب اقتصادية ضخمة، في الوقت الذي تعيش فيه هذه الحكومات بالأصل أزمة اقتصادية، فإنّ ذلك كله سيدفعها نحو مزيدٍ من الإجراءات التقشفية؛ أي أنّ الحل لدى الحكومات الأوروبية للسير في الطريق الأمريكي يمر عِبر مزيدٍ من التعدي على حقوق الناس في أوروبا...
وهذا ما لن يمر ببساطة إطلاقاً... السترات الصفراء ليست سوى شكل أولي للحراك الشعبي الذي لن يكف عن التطور، بل إنه يمكننا القول: إن التاريخ يقدم هنا احتمالاً معاكساً؛ فمحاولات أمريكا إخضاع حلفائها-أتباعها لمزيد من الابتزاز، وفي ظل تنامي وتصاعد الحركة الشعبية، سيقود نحو غليان جماهيري إضافي يقلب لهما ظهر المجن، ويعيد تموضع أوروبا السياسي بشكل كبير صوب المشروع الأوراسي، واصلاً بأمريكا إلى حيث ينبغي أن تكون: وراء المحيطات، جغرافياً وسياسياً...