ليس الانسحاب انسحاباً من سورية فقط!
علاء عرفات علاء عرفات

ليس الانسحاب انسحاباً من سورية فقط!

نشرت جريدة النداء اللبنانية في عددها الأخير الصادر بتاريخ 11-1-2018 مقالاً لعلاء عرفات عضو هيئة رئاسة وأمين حزب الإرادة الشعبية، تعيد قاسيون نشره فيما يلي..

يخطئ من يحاول قراءة إعلان ترامب انسحاب قواته من سورية، ضمن حدود الإحداثيات السورية أو حتى الإقليمية؛ فعلى الرغم من أهمية هذه الإحداثيات، إلا أنّ الخطوة الأمريكية في عمقها، جزء من مسار دولي عام تتثبت بموجبه حقائق التراجع الأمريكي- الغربي، بمقابل الصعود الروسي- الصيني.
نظام العلاقات الدولية بأكمله يتغير
الأهم من ذلك، هو أنّ مظاهر التراجع والتقدم على مستوى «المحاور والأقطاب الدولية»، وما يجري التعبير عنه بأنّ توازناً دولياً جديداً قد تشكل وبدأت مفاعيله بالظهور، هي الأخرى ليست جذر المسألة بل إحدى نتائجها؛ الجذر العميق للمسألة، هو: أنّ نظام العلاقات الدولي بأكمله، كتعبيرٍ عن شكلٍ محددٍ من تقسيم العمل الدولي، وفي القلب منه نظام التبادل اللامتكافئ، هو ما يجري تغييره ضمن هذه الحقبة التاريخية، والدافع الموضوعي نحو ذلك ليس سوى الأزمة الرأسمالية العميقة، والتي يمكن لها أن تكون الأزمة النهائية للرأسمالية.
شواهد التراجع، وشواهد بداية تغيّر منظومة العلاقات الدولية، وشواهد تعمق وتفاقم الأزمة الرأسمالية، أكبر من أن تستوعبها هذه المادة؛ لكن تثبيتها كنقطة انطلاق هو أمر لا بد منه لوضع إعلان ترامب في سياقه الموضوعي..
بين التيارين الأمريكيين
أعلن ترامب عن نيته الانسحاب من سورية، مرتين على الأقل قبل إعلانه الأخير، أولاهما: خلال حملته الانتخابية، والثانية: في شهر نيسان الماضي، وفي المرات الثلاث كان يعبر عن رأي تيار محدد ضمن النخبة الحاكمة الأمريكية المنقسمة على نفسها؛ والانقسام نفسه هو أحد التعبيرات المكثفة عن التراجع الأمريكي، لأنّ قانون تراجع القوى يفترض انقسامها، وهو يسري على مختلف أنواع القوى السياسية، بيسارها ويمينها.
التيار الذي يمثله ترامب، يمكن تسميته مجازاً بالتيار «العقلاني»، مقابل تيار آخر هو التيار الفاشي. التياران يمثلان توجهين إستراتيجيين متباينين، أحدهما: يعمل على تأخير– وإن استطاع- على منع تغيّر ميزان القوى الدولي، والآخر يقر بحقيقة ذلك التغيّر ويسعى للتكيّف معه.
التياران، بقاعدتيهما الاجتماعيتين، أي: بما يمثلانه ضمن النخبة الاقتصادية الغربية، وليس الأمريكية فحسب، يشتركان في استفادتهما من وضع الدولار العالمي، ومن منظومة التبادل اللامتكافئ التي اكتمل نشوءها أواسط ستينات القرن الماضي، ولكن أحدهما مستلب بالكامل لدور الدولار بالذات، لأنّ ثقله الأساس هو في «النشاط المالي»، وهو التيار الفاشي الذي يمثل اليوم رأس المال المالي الإجرامي العالمي، وهذا لا يملك خيار الإقرار بتوازنٍ دولي جديدٍ ومنظومة علاقات دولية جديدة، لأن إقرارهما يعني حكم إعدام بحقه، وأما التيار الآخر، «العقلاني»، والذي يستند إلى التطور الصناعي الأمريكي خاصة، والغربي بدرجة ثانية، فإنه يملك هامش مناورة يسمح له بالاستمرار، وإن بأرباح أقل بما لا يقاس، بعد انتهاء دور الدولار.
الصراع بين التيارين لم يُحسم بعد، ولا يجوز فهم إعلان الانسحاب الأمريكي من سورية، بأنه انتصار نهائي للتيار «العقلاني»، بل هو كما كل سلوك الإدارة الأمريكية خلال عدة سنوات مضت، (منذ 2008 على أقل تقدير) يحمل في طياته توافق حدٍ أدنى بين التيارين... أما التيار «العقلاني»، فيضع الخطوة ضمن إطار الانكفاء العام الضروري للتكيّف مع الوضع الدولي الجديد باعتباره خياره الإستراتيجي، ولكنه لا يمانع من تكييف شكل الانسحاب وتوقيته بحيث يتيح لزميله الفاشي مساحة إضافية لاستغلالها إن استطاع في إطار إطالة استنزاف الخصوم، وتعميق بؤر التوتر بل وتوسيعها.
محاولة خلق «فراغ»
الأمر الواقع هو: أنّ منظومة إقليمية- دولية جديدة، قد تشكلت استناداً للملف السوري إلى جانب عدة ملفات أخرى، ولكن إلى السوري بشكل أساس؛ منظومة أستانا (روسيا– تركيا- إيران)، وبات ضرب التفاهمات التي تتعمق يوماً بعد آخر بين أطرافها، مطلباً أمريكياً ملحاً؛ وعليه فإنّ توقيت إعلان الانسحاب الأمريكي (وهو الأمر الذي سيحصل عاجلاً أم آجلاً بحكم التراجع الأمريكي) من شأنه– في تقدير الأمريكان- أن يخلق «فراغاً»، بل وثقباً أسود يجتذب إليه مجمل القوى الفاعلة في الملف السوري محدثاً اشتباكاً عميقاً بينها، على مستوى العلاقات بين الدول الثلاث، وعلى مستوى العلاقات بين المكونات القومية للمنطقة.
وإذا كان ثلاثي أستانا، قد أثبت مراراً، أنه يسبق الأمريكيين دائماً، وبخطوة على الأقل، وبأن حجم التوافقات ضمنه أكبر بكثير مما يبدو، فإنّ دور السوريين يبقى مهماً وجوهرياً في تأريض محاولات التخريب الأمريكي عبر الضغط لتسريع الانسحاب الأمريكي. مفتاح هذا الضغط مسألتان، أولاً: الأرض التي يشغلها الأمريكي الآن على الأرض السورية، هي أرض محتلة، وبانسحابه- أو طرده- منها، فإنّ الجيش السوري هو الجهة الوحيدة المخولة للسيطرة عليها، وبما يحفظ كرامات أبناء المنطقة. ثانياً: ينبغي حث الخطى نحو تنفيذ القرار 2254 كاملاً، واستناداً إلى إشراك حقيقي لكل القوى السورية بما فيها القوى السياسية الموجودة شرق الفرات، بما يضمن الوصول إلى سورية جديدة يتوافق عليها ممثلو كل السوريين، وبما يضمن حل القسم المتعلق بسورية من المسألة الكردية، حلاً عادلاً يرتضيه الكرد السوريون وترتضيه عامة الشعب السوري.