الانسحاب الأمريكي...لماذا؟ وما العمل؟

الانسحاب الأمريكي...لماذا؟ وما العمل؟

أحدث قرار ترامب الإعلان عن انسحاب (كامل وسريع) من سورية، صدمة كبيرة في أوساط عديدة، داخل إدارته نفسها بادئ الأمر، ومن ثم في أوساط مختلفة على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية، وذلك بالرغم من أنّ مسألة الانسحاب كانت واضحة على جدول أعمال التوازن الدولي الجديد، (لمن يدرك حجم ذلك التوازن ومعناه ومفاعيله)، والسؤال كان فقط حول متى سيتم، وليس هل سيتم أم لا..؟

ولعل (الصدمة) إياها، تكون فرصة لكثيرين لمراجعة حساباتهم الخاطئة، ولعل عرض انعكاسات ذلك التراجع الملموسة على المستوى الإقليمي وعلى المستوى الداخلي للمسألة السورية، يكون عوناً لأولئك الراغبين في المراجعة، وهو بكل الأحوال ضروري لوضع هذا الانسحاب في سياقه الصحيح للإجابة عن السؤال الأهم: ما العمل؟

وعليه سنقسم العرض ضمن البنود الثلاثة التالية:

أولاً: انعكاس التحولات الدولية في المسألة السورية ببعديها الإقليمي والداخلي.

ثانياً: الاحتمالات والأهداف الأمريكية المتوخاة من القرار.

ثالثاً: ما العمل؟

أولاً: انعكاس التحولات الدولية
في المسألة السورية ببعديها الإقليمي والداخلي
مع الفيتو المزدوج الأول الروسي- الصيني، في مجلس الأمن بما يتعلق بسورية، غدا ممكناً القول: إنّ القوى الصاعدة قد تلاقت على المنحنى البياني لصعودها مع القوى الهابطة، وبتنا أمام توازن صفري... وترجمة التوازن الصفري على الأرض وعبر عدة سنوات، تمثلت في عدم قدرة أي: من الطرفين الدوليين على حسم الأمور لصالحه، وبقيت الأمور بين مدٍّ وجزرٍ، عبر محاولات التدخل المباشر وغير المباشر.

النتيجة الأولية للتوازن الصفري، تمثلت في منع تكرار سيناريو العراق أو ليبيا، ولكن ذلك أنتج سيناريو جديداً نسبياً؛ سيناريو الاستنزاف طويل الأمد، تحت ذريعة الحرب على داعش.
ولأن التوازن الصفري ليس أكثر من لحظة عابرة في التطور التاريخي، فإنه لم يستمر طويلاً، يمكن التأريخ لبداية انكسار هذا التوازن على المستوى السوري، بلحظة الدخول الروسي المباشر، أيلول 2015، على خط محاربة الإرهاب.
وعلى المستوى الإقليمي والدولي، يمكن أن نعدد بعضاً من الضربات الثقيلة التي تلقاها الأمريكي خلال السنوات الثلاث الأخيرة:
بريكست، وظهور الانقسام الوجودي في أوروبا على مستوى الدول فيما بينها، وعلى مستوى كل دولة على حدة، حول تحديد التوجهات الدولية الجديدة، وطبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة، في جملة ملفات كبرى على رأسها العلاقة مع روسيا والصين وإيران.
الاتفاق النووي الإيراني.
التقارب التركي الروسي، الذي تحول إلى علاقة إستراتيجية تتعزز أكثر فأكثر، وبالتالي الخسارة المتسارعة للناتو ولقائدته لثاني أكبر جيش في الناتو، ولشرطي مطيع للدور الغربي في مجمل المنطقة عبر قرن كامل خلا.
أزمات الخليج البينية والداخلية، والتي أوصلت دولة مثل السعودية، إلى حال بدأت فيه بالمناورة مع الأمريكي، ومحاولة تقليل ابتزازه لها، عبر فتح الخط مع الروس والصينيين.
التقهقر المتسارع للدور الصهيوني، وخاصة بعدS300، وظهور العزلة المتزايدة والضعف المتزايد، بعد انتصار غزة الأخير والمذل للصهيوني.
التوسع المطرد للدور الصيني في أفريقيا، بالتزامن مع احتدام الصراع الأوروبي الأمريكي حول إفريقيا، وبداية تراجع الدور الصهيوني في القارة.
دخول الروس المباشر على خط تكييف الجامعة العربية، عبر العمل الجاد لاستعادة مقعد سورية فيها.
الخسارة المدوية في أوكرانيا، وتشكل الرباعية الروسية الأوربية حولها، ابتداء من اتفاقات مينسك، وعزل الأمريكي عن المسألة.
بالعودة إلى الوضع السوري، فإنّ الدخول الروسي في الشهر التاسع 2015، قد تلاه مباشرة، إصدار القرار 2254، والذي شكل نقطة تحول سورية، تعبر بشكل مكثف عن رجحان كفة الميزان الدولي صوب الشرق، وتلا ذلك مسار أستانا الذي مثّل بداية تشكيل لمنظومة إقليمية، ذات إطلالة دولية، تبعد الأميركان خاصة، والغربيين عامة، عن التلاعب التخريبي في شؤون المنطقة.
وفي هذا السياق فإنّ جميع المحاولات البائسة لإفشال أستانا وسوتشي، قد باءت بالفشل الذريع؛ سواء تلك التي حاولت تشكيل قطب مضاد (لإحداث التوازن) أي: المجموعة المصغرة، أو عبر محاولات الإيقاع بين أطراف هذا الاتفاق.

ثانياً: الاحتمالات والأهداف الأمريكية المتوخاة من القرار

في مرحلة التوازن الصفري، وما قبلها، كانت الولايات المتحدة تحاول استباق انفجار الأزمة الاقتصادية، والسياسية تالياً، عبر تعميم «الحرب على الإرهاب»، ومن ثم عبر محاولة استخدام الحراكات الشعبية، وصولاً إلى استنزاف خصومها، ومنعهم من وضع الدولار على طاولة البحث العالمي... بعد فشلها في ذلك، وانفجار أزمة 2008، تراكبت الأزمة المالية- الاقتصادية، مع «المجهودات العسكرية» لواشنطن، فلم تعد أي منهما قادرة على تخديم الأخرى بالشكل المطلوب، وبات المخرج الوحيد هو توسيع نطاق الحرب البينية بين الخصوم وعلى أرضهم، بأكبر قدر ممكن، والدخول المباشر للأمريكي، ومحاولات البقاء، كانت لتخديم هذا المخطط ومتابعة تنفيذه وتوسيعه يوماً بيوم؛ هذا ما سبق أن أسميناه بنشاط الاتجاه الفاشي ضمن الغرب عموماً، وضمن الولايات المتحدة خصوصاً: وهو التيار الذي يقوم نشاطه وتقوم هيمنته على سيادة الدولار عملة عالمية، والذي يضع ثقله كاملاً في النشاطات «المالية»، وهو التيار الذي يعني انهيار عالمية الدولار بالنسبة له، انهياراً شاملاً وسريعاً...

في مقابل هذا التيار، كان ولا يزال يوجد تيار آخر، أقرب من الأول إلى الإنتاج الحقيقي، والذي لا يعدم الحصول على فوائد كبرى من سيطرة الدولار، لكنه مع ذلك، قادر على متابعة حياته الاقتصادية والسياسية، بوصفه الرقم واحد مكرر على المستوى العالمي، إلى جانب المنتجين الكبار الآخرين. ولكن استمرار هذا التيار، يتطلب إنهاء المشاغبات المجنونة للتيار الفاشي، بشكل تدريجي، ولكن سريع... لأنّ انهياراً شاملاً للدولار لن يأخذ في طريقه (رأس المال المالي الإجرامي) فحسب، بل وسيحمل مخاطر كارثية على الاستقرار السياسي للولايات المتحدة نفسها، مهدداً بتدنٍ سريع في مستوى المعيشة، مع ما يحمله ذلك من احتمالات، ليس مستغرباً أن يكون بينها انقسام الكيان السياسي للدولة بين الولايات الغنية والفقيرة، وهو الأمر الذي لم يعد مستهجناً الحديث العلني عنه في «المراكز البحثية» الأمريكية...
من حيث المبدأ إذاً، فإنّ انسحاب الولايات المتحدة من منطقتنا، وانكفاءها عموماً، هو أمر حادثٌ لا محالة، ولكن السؤال يبقى حول توقيت وطريقة ذلك الانسحاب...
احتمالات
أول ما ينبغي التمحيص فيه، هو مدى جِدّية القرار الأمريكي بالانسحاب في هذه اللحظة بالذات؛ إذ لا يجوز إسقاط احتمال أن يكون الإعلان مشابهاً لذلك الذي جرى في نيسان الماضي. ولكن حتى وفقاً لهذا الاحتمال، فإنّ انسحاباً جزئياً على الأقل قد جرى، ونحن على بعد يوم واحد من القرار، ولا بد من مراقبة التنفيذ يوماً بيوم. ما نقوله: أنّه حتى إن كان الإعلان كاذباً، واكتفى بانسحاب جزئي، فإنّه تعبير إضافي عن التراجع الأمريكي وعن حجم التخبط المريع ضمن الإدارة الأمريكية (يمكن لمن يرغب في استطلاع حجم التخبط، أن يقرأ التحليلات التي نشرت منذ صدور القرار في واشنطن بوست، ووول ستريت جورنال، والغارديان، وغيرها، وهي للحق تحليلات مسلية ولا تخلو من الفكاهة).
الاحتمال الثاني: هو أن يتم الانسحاب فعلاً، وأن تجري عودة جديدة بعده، إنْ كان ذلك ممكناً، تحت أية ذريعة يجري اختلاقها؛ تكفي في هذه الحالة مجزرة ما يقوم بها داعش. وفي هذه الحالة أيضاً، ستكون العودة أضعف وأكثر هشاشة، ولن تجد الترحيب الذي لقيته من البعض في الدخول الأول، أو على الأقل ستجده ترحيباً مشوباً بمعارضة وازنة لن تمر دون خلق مشكلات كبرى للأمريكي: يكفي أن نتذكر أن الهروب المخزي للأمريكي من بيروت 82 لم يكلف المقاومين شيئاً كثيراً...
الاحتمال الثالث: هو أن يجري الانسحاب الكامل والسريع حقاً، والغايات الواضحة من هكذا انسحاب تتمثل في أمرين أساسَيْن:
الأول: هو أن الانسحاب أمر لا مفرّ منه، ولا بد حاصل، اليوم أو غداً، ولذا فإنّ تسريعه، قد يجنِّب واشنطن خروجاً مذلاً يلوح في الأفق.
الثاني: اختيار توقيت الانسحاب وشكله، بعد عمليات توتير كبرى حول شمال شرق سورية، يمكن أن نعدّ بينها:
الحديث عن تدريب 40 إلى 50 ألفاً، من القوات الكردية، وعلى الحدود مع تركيا، الأمر الذي سهل لتركيا الإعلان عن جهوزيتها لاجتياح المنطقة، ورفع درجة التوتر إلى الحدود القصوى بين الأتراك والكرد، في سورية وفي عموم المنطقة.
الحديث عن إدخال قوات بيشمركة سورية قادمة من العراق إلى المناطق الحدودية السورية التركية، ومن المعلوم أن العلاقة التاريخية بين pyd وpkk من جهة، وبين البيشمركة من جهة أخرى، ليست على ما يرام دائماً، بما يخلق توتراً بين الكرد أنفسهم، ويمهد لاقتتال كردي- كردي.
وجود الجيش السوري على تخوم المنطقة، ووجود قوات حليفة أخرى على التخوم، بما يوحي بأنّ انسحاباً أمريكاً يمكن له أن يحول المنطقة إلى ثقب أسود يمتص الجميع ضمن صراع على السيطرة.
الهدف الأساس من التوقيت، وبعد فشل المحاولات السياسية عبر ملف اللجنة الدستورية، وغير السياسية عبر النصرة وحلفائها وخروقاتهم وتعقيدهم لحل ملف إدلب، بعد فشل هذه المحاولات جميعها في ضرب تفاهمات ثلاثي أستانا، وضربهم مثنى مثنى، أي: ضرب الروس بالأتراك، والروس بالإيرانيين، والإيرانيين بالأتراك، وتغذية ذلك كله عبر نشاطات محددة لداعش، وعبر تحفيز اقتتال كردي- كردي، وكردي- عربي.

ثالثاً: ما العمل؟
إنّ الخروج الأمريكي من سورية، هو هدف لكل وطني سوري، بل وخبر مفرح لكل إنسان يريد الخير والتقدم للبشرية في كل العالم، ولكن تأريض الغايات التخريبية الأمريكية لتحويل الخبر المفرح إلى واقع مقيم، ومفرح، يحتاج إلى قدر عالٍ من الحكمة في التعامل مع محاولة الأمريكي خلق «فراغ» يؤدي إلى الاقتتال البيني.

الأصل في المسألة، أنّ الأمريكي موجود في سورية كمحتل، وخروجه يعني بالضرورة، عودة الجزء الذي احتله إلى سيادة الدولة السورية، ويعني بالضبط أن الجيش السوري ينبغي أن يكون القوة الأساسية في تلك المنطقة، وهو الحل الوحيد لمنع هجوم تركي باتجاه شرق الفرات، وما يمكن أن ينتج عنه من سلسلة انفجارات قد تصل محصلتها إلى الهدف الأمريكي من الانسحاب.
بالتوازي مع ذلك، ينبغي إشراك المكونات السياسية السورية الموجودة شرق الفرات، إشراكاً حقيقاً وفاعلاً ضمن العملية السياسية السورية، ابتداء من الدستور ووصولاً إلى مختلف تفاصيل العملية، بما يضمن حقوقهم وكرامتهم، وبما يفتح الباب لوضع المسألة الكردية على سكة حل فعلي وواقعي، بعيداً عن الكذب والمتاجرة الأمريكية بقضية الشعب الكردي، والتي لا يعتبر انسحابها (غدراً وخيانة) إلا أحمق معتوه لم تعلمه شيئاً دماء شعبه المهدورة على مذبح الأكاذيب الأمريكية عبر عقود طويلة...
إنّ حلاً حقيقياً للقضية الكردية، في سورية، لن يكون إلّا عبر حل سياسي شامل يتوافق عليه الشعب السوري بمجموعه، وفي هذا السياق لا بد من إخراج الأمريكي، كمقدمة لإخراج الجميع وصولاً لاستعادة الشعب السوري سيادته على كامل أرضه، سيادة الشعب السوري وليس سيادة نظام أو معارضة.
ومن ثم، فإنّ حلاً جذرياً للمسألة الكردية في عموم المنطقة، لا يمكن أن يجري بالضد من إرادات شعوب المنطقة بأسرها، وبالاتكال على النفاق الأمريكي؛ الحل لا يمكن أن يكون إلا عبر إنهاء التخريب الغربي، والالتفات إلى استعادة علاقات أخوية بين شعوب المنطقة بأسرها، خدمة لكل شعوبها.
خلاصة القول: إنّ الخروج الأمريكي ينبغي أن يتم تلقفه سريعاً عبر الخطوات التالية:
- تعميق التفاهمات بين ثلاثي أستانا.
- إدخال المكونات السياسية السورية الموجودة شرق الفرات، وعلى رأسها المكونات السياسية الكردية، ضمن العلمية السياسية السورية بمختلف تفاصيلها، بما في ذلك التوافق بين السوريين على حل المشكلات المتعلقة بشكل الدولة وطريقة توزيع السلطات.
- الجيش السوري هو الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تقف على الحدود السورية، وأن تستعيد المساحة التي احتلت من سورية خلال الفترة الماضية، الكلام نفسه ينطبق على كل منطقة فيها وجود أجنبي، أياً يكن هذا الوجود.
إنّ الوجود الأمريكي المباشر، والدور الأمريكي عبر الوجود وعبر مختلف الأساليب والأدوات، لطالما كان دوراً تخريبياً في الوضع السوري، وفي المنطقة عموماً، وإعلان الانسحاب من سورية، ليس سوى بداية انكفاء هذا الدور، وهو في الوقت نفسه إشارة هامة للوطنيين السوريين لتحقيق تقارب أكبر فيما بينهم، وفي وجه المتشددين من كل الأطراف، وصولاً إلى الحل السياسي الشامل عبر التطبيق الكامل للقرار 2254.

آخر تعديل على الإثنين, 24 كانون1/ديسمبر 2018 13:04