افتتاحية قاسيون 891: «شبح يطوف بأوروبا»

افتتاحية قاسيون 891: «شبح يطوف بأوروبا»

تؤكد الاحتجاجات والتظاهرات الفرنسية، التي ما زالت مستمرة في أسبوعها الرابع على التوالي، والتي بلغت ذروة جديدة يوم السبت 9 كانون الأول، حيث امتدت إلى ما يقرب من 400 مدينة، وشارك فيها ما يربو على 127 ألفاً (حسب اعترافات الداخلية الفرنسية) من السترات الصفراء، ومن انضم إليهم من عمال وطلاب جامعات وطلاب ثانويات، وتؤكد هذه الاحتجاجات ما قالته وثائقنا في وقت مبكر من مطلع هذا القرن: «الجماهير ستعود إلى الشارع وعلى الأحزاب الثورية أن تعود إلى الجماهير لتعود معها إلى الشارع»، وأنّ هذا الأمر لن يقتصر على بلد بعينه أو منطقة بعينها، بل سيكون ظاهرة عالمية عامة، مشتقة من الأزمة الرأسمالية العميقة والشاملة.

مع احتجاجات فرنسا، يسقط بالمعنى العملي ما قيل عن «ربيع عربي» خاص بمنطقتنا وظروفها ومشكلاتها، دون ربط تلك المشكلات بجذرها الأساس. وعلى الخصوص تسقط الطروحات النظرية التي حملتها بعض القوى التي تسلقت على حراكات الناس في بلداننا، من أنّ هدف الحراك ومبتغاه هو الوصول للنموذج الغربي؛ فهذه فرنسا، أحد أمثلة «النموذج الغربي» و«الديمقراطية الليبرالية» التي يفترض أن عندها «نهاية التاريخ»، تثبت أن التاريخ لم ينته، وأنّ المشكلة أعمق وتحتاج لحلول أعمق وأكثر جذرية.
طوال ثلاثة قرون على الأقل، شكلت فرنسا نقطة انطلاق التحولات الكبرى في أوروبا؛ وذلك إذا اعتمدنا الثورة الفرنسية 1789 نقطة علام أساسية، ولكن إذا عدنا للوراء سنجد أنها أسهمت أيضاً، وبشكل مؤثر، في إنتاج مفكري التنوير أمثال: ديدرو وروسو وفولتير ومونتسكيو وغيرهم.
وإذا كانت الجماهير الفرنسية قد احتلت الباستيل مطلع الثورة الفرنسية، ولم يكن على رأسها حزب أو قيادة واضحة، فإنّ السترات الصفراء هي الأخرى، وعلى أبواب الشانزيليزيه، لم تخرج تحت قيادة حزبية محددة، وهذه وتلك تؤكد مقولة التعفن الدوري للفضاء السياسي القديم الذي يفقد صلته بالجماهير، الجماهير التي تتراكم مشكلاتها إلى الحد الذي يدفعها إلى الشارع من جديد بعد سبات يطول أو يقصر، لتحقق بذلك الشرط الثالث من شروط الوضع الثوري: النشاط السياسي العالي للجماهير، وهذا النشاط يستمر حتى يخلق فضاءً سياسياً جديداً يعبر عنه بشكل فعلي، ويستمر بعد خلقه ليشرف على عمليات التغيير التاريخية المستحقة، والتي لا يمكن القفز عنها أو تأخير تحقيقها.
إنّ جملة الشعارات التي طرحتها السترات الصفراء حتى الآن، وكذلك حركتها نفسها واتساع مداها، تؤكد مسألتين جوهريتين:
أولاً: إنّ كل التحالفات والتجمعات التي تشكلت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، إبّان تراجع الحركة الثورية العالمية، والسبات الجماهيري، هي الآن قيد التفكك والانحلال، ونعني بذلك: الناتو، منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد والبنك الدوليين، والاتحاد الأوروبي نفسه.
ثانياً: إنّ الهيمنة الأمريكية السياسية على دول أوروبا، والتي تكرست بشكل مطلق مع التحولات التي تلت ديغول ومن ثم مع تاتشر والنيوليبرالية، تعيش الآن آخر أيامها، وإذا كانت الضربة الأولى في هذا القرن هي إطلاق اليورو، فإنّ عزل أمريكا لن يطول به الأمر حتى يصل إلى النظام المالي العالمي وحجر زاويته- الدولار، وذلك ابتداء من نظام التحويلات، وليس انتهاء بطريقة اعتماد العملة الاحتياطية العالمية.
الشبح الذي طاف أواسط القرن التاسع عشر في أوروبا، عاد إليها، ولكن ليس إليها وحدها، بل بات يطوف العالم بأسره!

آخر تعديل على الإثنين, 24 كانون1/ديسمبر 2018 14:07