شرق الفرات... غرب الجحيم!

شرق الفرات... غرب الجحيم!

تضيق مساحات اللعب الأمريكي أكثر فأكثر، وتكثر الأخطاء والأكاذيب المكشوفة؛ كنا قد وقفنا سابقاً عند جملة من الأكاذيب التي أطلقها جيمس جيفري خلال نشاطه المحموم على مدار الشهرين الماضيين، وعددنا بينها كذبه بما يتعلق باتفاق إدلب وباللجنة الدستورية وبمحاربة داعش وغيرها.

رغم ذلك، فإنّ جيفري لا يكف عن إمدادنا بمواد جديدة وطازجة، مع كل زيارة جديدة يقوم بها لأية جهة كانت، وكَنْهُ المسألة أن سياسة «حرب الجميع ضد الجميع» لا تمر إلا بالكذب على الجميع، وإيهام الجميع بأنّ الكل أعداء لبعضهم البعض، وحليفهم الوحيد هو واشنطن، ولكن هذه السياسة تحولت إلى سخافة محضة مع تآكل الدور الأمريكي ومع اكتشاف الأطراف المختلفة، إلى هذه الدرجة أو تلك، أن الولايات المتحدة تعمل ضد مصلحتها، وتعمل لاستمرار الحرب، بل ولتصعيدها وتوسيع مدى انفجارها ما استطاعت.
أكبر أكاذيب واشنطن في منطقتنا، هي: أنّها حليفة للأتراك وللكرد في الوقت نفسه؛ ولذا نسمع من جيفري قبل أيام أن قسد هي حليفه الأساس في سورية، ثم وخلال زيارته لتركيا نسمع أن علاقة واشنطن بقسد هي علاقة مؤقتة، بل وأنها يجب أن تخرج من منبج، وأن الحليف الأساس هو تركيا.
إذا أردنا الوقوف على ما تريده واشنطن من الجانبين، يمكننا تحديد المسائل التالية
أولاً، من الأتراك:
تريد واشنطن منع إنهاء النصرة في إدلب، عبر ابتزاز الأتراك في مسألة شمال شرقي سورية والقضية الكردية: إذا تعاونتم مع الروس في إنهاء ملف إدلب، أو في مسألة اللجنة الدستورية بعيداً عن موافقتنا، فإنّ ثمن ذلك سيكون إنشاء كيان منفصل في شمال شرق سورية، وإنْ منعتم إنهاء الملفيّن سنحجم دور الأكراد بالتدريج (الممل)، وسنغض النظر عن استمرار مسار أستانا، شرط ألّا يُحقق تقدماً في إدلب، أي: شرط أن يكون مساراً شكلياً، وليس فاعلاً كما كان حتى الآن، وسنضغط على الأوروبيين لكي يقدموا لكم تنازلات مالية بما يخص اللاجئين السوريين، وسنسمح ربما باستثناءات أوسع لكم بما يخص عقوباتنا على إيران.
ثانياً، من الكرد:
سنمنع تركيا من اجتياح مناطقكم، أو تقليص نفوذكم فيها، وسنفرض في سورية سيناريو كردستان العراق، وربما نذهب أبعد من ذلك بعد حين، ولكن عليكم أن ترفعوا الصوت للمطالبة ببقائنا في وجه المطالبات الروسية برحيلنا (وهو ما نفذه فعلاً رياض درار)، وعليكم أن تلتزموا خطتنا في (الهزيمة الدائمة) لداعش، والتي عليها أن تستمر سنوات طويلة، وعليكم عدم الاقتراب من أية عملية سياسية سورية دون التنسيق الكامل معنا، ومعنا وحدنا.
المحصلة:
إذا جمعنا ما تريده واشنطن من الأتراك ومن الكرد، وتركنا جانباً الأوهام التي تزرعها في رؤوس الطرفين لتمرير ما تريد، نجد التالي:
• إنهاء النصرة ممنوع، ويجب أن يبقى هذا الملف معلقاً إلى ما لا نهاية، لكي يضمن منع حل الأزمة، ولكي يضمن مساحة دائمة للّعب بين تركيا وروسيا، وللتأثير على الملفات المختلفة المتعلقة بمسارات الحل.
• عدم إنهاء النصرة لفترة طويلة، سيؤدي إلى إنهاء أستانا، وليس أستانا فحسب، بل وجنيف أيضاً، لأن العودة إلى جنيف بشكله السابق وهم كامل يقتات عليه (حقاً وفعلاً) بعض متشددي هيئة التفاوض. وبذلك فإنّ القرار 2254 نفسه يجب وضعه على الطاولة من جديد، لا بغرض التنفيذ، بل بغرض إعادة دراسة صلاحيته؛ ما يعني: العودة إلى الصفر.
• إنهاء داعش ممنوع، وبقاؤها في شرق الفرات هو حجة لبقاء الأمريكي، وهو أداة ابتزاز ضد الكرد حيناً، وضد جهات أخرى في أحيان أخرى.
• وضع اليد الأمريكية على شمال شرق سورية لفترة طويلة قادمة، يعني في ما يعنيه: حجب مصادر ثروات أساسية ومساحة هامة من سورية عن الدخول في مرحلة جديدة، وتالياً: منع أي حل سياسي من التحقق، في عموم سورية، وفي الشمال الشرقي ضمناً.
إنّ مجمل الأوهام التي يحاول الأمريكيون زرعها في رؤوس الأتراك وفي رؤوس الكرد، تقوم على موضوعة أساسية، ينبغي إقناع كل طرف بشعار غير قابل للتحقيق؛ أحد أهم الأمثلة على هذه الطريقة في التلاعب هي الشعار القائل: إن الخروج الأمريكي لن يتم إلّا بعد الخروج الإيراني، وهذا الأخير لن يتم بالأدوات العسكرية وفقاً لجيفري، بل بالأدوات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية.. إلخ، وهذه قصة أخرى عن محاولات اللعب الأمريكي حتى بين النظام السوري وبين الإيرانيين، ولكن ما نقوله هنا هو: أنّ وضع هذا الشرط (مستحيل التحقيق)، يكافئ ببساطة القول: لن نخرج...
إنّ الإصرار الأمريكي على عدم الخروج، وعلى وضع اشتراطات متعددة للخروج، يعكس قلقاً عميقاً من اتساع دائرة التوافق بين «الأعداء المفترضين»، الأمر الذي من شأنه ليس فقط تسريع خروج الأمريكان، بل وخروجهم قبل أي أحد آخر!