أي مستقبل للنفوذ الإيراني والتركي في سورية؟

أي مستقبل للنفوذ الإيراني والتركي في سورية؟

وقفت كل من إيران وتركيا في الملف السوري على طرفي نقيض خلال سنوات عديدة من الأزمة السورية التي كانت ملفاً حاسماً في المجال الإقليمي لكل منهما، ورغم أنه لا يمكن الموازاة بين دور الدولتين في سورية، إلّا أن تشابهاً في البنى والأوزان الإقليمية...يحرّك لدى السوريين أسئلة حول مستقبل نفوذ كل منهما في سورية.


يتساءل العديدون، وتحديداً بعد عام 2016 وإيجاد صيغة الأستانة والدول الضامنة الثلاث... حول الأثمان التي تريدها كل من إيران وتركيا في سورية مقابل الأدوار التي لعبتها في المعركة، ولاحقاً في التسويات.

ليذهب البعض للقول بأن تركيا تريد مناطق نفوذ، تحتلها في الشمال السوري، وتفرضها على التوافق السوري فيما يخص المسألة الكردية. ويذهب آخرون إلى أن إيران ستضع شروطاً وخطوطاً حمراء في التوافقات السياسية، وستسعى لطلب تعويضات وحصص من إعادة الإعمار.

البعد الدولي يحسم الميل الإقليمي
إن وضع هذه التساؤلات غير مستنكر، وهي جوانب لا تغيب عن مصالح وعقلية القوى الإقليمية في إطار مسعى النفوذ الإقليمي... ولكن هذه الرؤية تفتقر إلى البعد الأهم المحدد لسلوك القوى الإقليمية، سواء إيران أو تركيا وهو: البعد الدولي والصراع المحتدم، الذي يضع المشاريع و(المتنفسات الإقليمية) إن صح القول في كفة ميزان مع التحديات الدولية.
ويتجلى هذا بوضوح في الأزمة السورية، وبعلاقة كل من إيران وتركيا بالقوى الدولية الصاعدة والفاعلة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وتحديداً روسيا والصين من جهة، وبعلاقتها القديمة والجديدة مع قوى الغرب في أزمتها الاقتصادية والسياسية الحالية، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى.
حيث تفرض المتغيرات الدولية على هاتين القوتين الإقليميتين مسارات محددة، ومجالات مناورة ضيقة، ستدفعها باتجاه واحد.
فكل من إيران وتركيا كانت على طرفي نقيض في عالم القطب الأمريكي الواحد، ومع تراجعه اقتصادياً منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، فإن كلاً منهما قد امتلكت مساحة مناورة أعلى، تجلت على وجه التحديد في دور هذه القوى في الأزمة السورية. وبغض النظر عن موقف كل منهما، وعن الإيجابية في الدور الإيراني بمقابل العدوانية في الدور التركي... إلّا أن للقوتين الإقليميتين مساراً محدداً، فرضته التغيرات الدولية وهو: المساهمة الفعالة في تسوية الأزمة السورية وفق توازنات القوى الدولية الجديدة، أي: المحافظة على وحدة البلاد واستقلالها، وإنهاء الإرهاب، وتسوية سياسية شاملة وفق القرارات الدولية و2254 تحديداً. وهو ما تجلى في مسار الأستانة وضوحاً، وبعدها في سوتشي.

المناورة التركية مسألة وقت
وأياً تكن المصالح الضيقة التركية أو الإيرانية في الأزمة السورية، فإن الأزمة الدولية الشاملة ستفرض على كل منهما أعلى مستوى من التعاون مع القوى الدولية الفاعلة في الحل، ولن تسمح بمساحات مناورة واسعة.
فأردوغان على سبيل المثال لن يستطيع الاستمرار في المناورة بذريعة (الإرهاب الكردي)، والدعم الأمريكي له، الذي أتاح له الدخول إلى عفرين واحتلالها، وتحديداً بعد نوايا الانسحاب الأمريكي شبه المعلنة، واقتراب إدخال الملف الكردي السوري في دائرة الحلول السياسية. ولن يستطيع أن يستمر في إثارة الضوضاء والمساومة حول طريقة إنهاء الوجود الإرهابي في إدلب، تحديداً بعد أن تحولت مسألة إنهاء الوجود الإرهابي في سورية مسألة محسومة دولياً وموضع توافق عام، وبعد أن أصبحت مدعومة بتجارب عديدة أظهرت أنه ما من منطقة نفوذ في سورية أصبحت محمية سياسياً، وأن المبادرة الروسية سياسياً وعسكرياً هي العنصر الفاعل والحاسم في تغيير خريطة الصراع ومساراته.
لن تستطيع تركيا أن تخالف الشرعية الدولية بالبقاء في الأراضي السورية، ولن تستطيع أن تستثمر علاقتها بحملة السلاح في إدلب، لأن أقصى ما تملكه هو التأثير على توقيت المعركة وحجمها. أما نتائجها ومسارها فهي مسألة حسمتها التوازنات الدولية الجديدة.
ولذلك فإن تركيا إن أرادت التشبث بالمصالح الضيقة والمؤقتة في سورية، عليها أن تفاضلها مع جملة المصالح التركية بعيدة المدى مع روسيا والقوى الدولية الصاعدة. فتركيا التي نبذت حلم الاتحاد الأوروبي بعد أن نبذها، والتي شهدت انقلاباً بدعم أمريكي، والتي تواجه وستواجه معركة اقتصادية مع قوى المال الغربي التي تهددها بالعقوبات، وتهرب من تركيا لتنهار ليرتها ويضطرب اقتصادها... تركيا هذه لن تجد متنفساً ومخرجاً إلّا بالأبواب المفتوحة شرقاً، بدءاً من خطوط نقل الغاز الروسي، ومشاريع الطاقة النووية، والسلاح النوعي، وصولاً إلى المشروع الصيني للربط بين آسيا وأوروبا وإفريقيا الذي قد تكون تركيا ذات أهمية عالمية له، مروراً بكل منافذ التمويل والتجارة والنمو التي أصبحت مفتوحة لدى القوى الجديدة، ومغلقة من طرف الغرب. لن تستطيع تركيا أن تناور لتكسب عفرين أو أي نفوذ ضيق في سورية، لأنها لا تمتلك أية قوة تفاوضية إلا تكتيكية محدودة ومؤقتة، ولا يمكن مقارنتها بكل حاجاتها الإستراتيجية للانخراط شرقاً... وهو ما سيجعل تركيا حكماً طرفاً مساهماً في التسوية السورية، وسيدفعها للانسحاب، وللتعاون الجدي في محاربة الإرهاب، بل وفي إعادة اللاجئين ودفع تعويضات لتأمين استقرارهم في سورية، وإن كان هذا التجاوب تدريجياً إلّا أنه مسار شبه محسوم.

الطرف الإيراني مرونة أعلى
وعلى الطرف الإيراني، فإن الأمور أسهل نسبياً، وأقل تعقيداً ومناورة... فإيران عملياً تحتاج وبشكل ملح إلى الإطار الدولي الداعم، في مواجهة التصعيد الأمريكي الجديد بالعقوبات التي قد تصل إلى خسارة إيران لمليون برميل نفط يومياً! وكل ما يستتبعه هذا من تحديات اقتصادية وتوترات اجتماعية. وهي تجد هذا الإطار في العلاقات مع القوى الفاعلة، تحديداً الصين وروسيا. بل وتجد في التسوية والاستقرار النهائي في سورية متنفساً ينهي تناقضات داخلية تحتدم، ولن يكون من مصلحتها وضع خطوط حمراء إلّا فيما يتعلق بالكيان الصهيوني، والنفوذ الأمريكي في سورية... وهي مسائل تحلها التوازنات الدولية، وتتلمسها إيران لتبدي على إثرها مرونة في التسوية في المنطقة الجنوبية، وتنتقل للحديث عن خروج (مستشاريها) من كامل البلاد مع استقرار الوضع في سورية. أما قوى المال الإيرانية التي تسعى لمكاسب اقتصادية، فهي لا تقتصر على الطرف الإيراني بل هي موجودة لدى كل الأطراف التي تتعامل مع إعادة الإعمار السورية كفرصة اقتصادية. الأمر الذي لن يتم التعامل معه جدياً إلّا مع الوصول إلى تسوية تسمح لعموم السوريين بالدفاع عن مصالحهم في وجه أطماع المال التي بلا جنسية وهوية.