عن «التغيير الديمغرافي»

عن «التغيير الديمغرافي»

دخل مصطلح «التغيير الديمغرافي» قاموس التداول السياسي السوري منذ أواخر العام 2012، وتحديداً مع معركة القصير، ولم ينقطع استخدامه منذ تلك اللحظة وحتى وقتنا الراهن... وقد استُخدم المصطلح أيضاً أيام حلب، ثم الغوطة، فالقلمون الشرقي، والآن في ريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي.

 

المعنى المباشر الذي يرمي إليه أصحاب هذا المصطلح، ويشفّرونه بكلمتي التغيير الديمغرافي، هو التغيير الطائفي؛ حيث تقوم طائفة بطرد طائفة أخرى من أرضها لتحل محلها. بين تفسيرات هذا الالتفاف والتحايل يبرز أمران، الأول: أنّ الرأي العام السوري، ورغم حجم الكارثة وهولها، إلّا أنه لا يزال يتأذى سمعه من الكلام الطائفي المباشر، بل ويغص به وبقائله مشتبهاً به كل الشبهات. الأمر الثاني: أن المسألة في حقيقتها ليست كذلك؛ فعمليات «إحلال» طوائف محل أخرى، لو كانت منهجاً ثابتاً على الأرض، إذاً لكنا رأينا نتائج ذلك الإحلال بازدياد مساحات المناطق «الصافية طائفياً»، والتي بالكاد كانت موجودة في سورية قبل الأزمة. على العكس من ذلك، فواقع الحال هو أنّ حجم الاختلاط الحاصل نتيجة اللجوء الداخلي باتجاه المناطق الأقل توتراً، قد ارتفع لدرجات غير مسبوقة طوال التاريخ السوري.
المسألة إذاً، ليست مسألة طائفية، رغم أنّ الإيحاء المستمر الذي يجري تقديمه هو بهذا الاتجاه، ويجري تقديمه بشكل مقصود من متشددين في الطرفيين؛ يمكن استخراج مئات وآلاف المواد الفيلمية من مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك يمكن استخراج إيحاءات عديدة من «سياسيين»، و«أشباه سياسيين» في الطرفين.
إذاً، لم تكن المسألة طائفية، فما هي إذاً؟ يمكن أنْ نقارب المسألة ضمن النقاط الأساسية التالية:
أولاً: استخدام هذا الاصطلاح يفيد في تعزيز الصراع الإقليمي (الإيراني_ الخليجي)، على الأرض السورية، ولكن هذا أقل استخداماته أهمية...
ثانياً: الممارسة العملية بالارتباط بما جرى في الغوطة والقلمون الشرقي، وما يجري الآن في ريفي حمص حماة، تشير إلى أنّ ما يريده المتشددون من الطرفين، وما يتوافقون عليه توافقاً تاماً هو الوصول إلى أحد خيارين (انتشرت رسالة صوتية للمحيسني منذ فترة قصيرة بخصوص ريفي حمص حماة تتفق مع هذين الخيارين): أ- أن تبقى الأمور على حالها، أي: أن يبقى السلاح بيد المسلحين، وأن يبقوا ضمن المناطق السكنية، وأن يتم وقف القتال مؤقتاً على شكل هدنة أياً يكن وصفها، على أن يكون القتال قابلاً للاستئناف في أية لحظة تالية، بما يسمح بمنع الحل السياسي وتأجيله وعرقلته مرة بعد مرة. (هذا هو الخيار الأمثل لمتشددي الطرفين). ب_ في حال أصر الروس على إنهاء الوضع القتالي لهذه المناطق، ينبغي العمل على تفريغها من السكان، عبر تهجيرهم باتجاه إدلب وأرياف حلب، وهو ما بات معروفاً من شهادات مدنيين من الـ70 ألفاً الذين تم إخراجهم من الغوطة، (وأخرجهم متشددو الطرفين بالتكافل والتضامن فيما بينهما عبر الترهيب والترغيب).
من بين الأدوات المستخدمة في الترهيب، الحديث عن الاستباحة والاغتصاب (والتهديد بها) وغيرها، وهي ظواهر حدثت دون أدنى شك ضمن عمر الأزمة وفي أماكن متعددة، ولكن ليس في الأماكن التي جرت فيها الأمور بضمانة روسية وبوجود الشرطة العسكرية الروسية. الطريف في الأمر أنّ المهرب من هذه الاستباحة المفترضة، هو إدلب حيث الصراع الدموي بين جبهة النصرة وفصائل لا تختلف إلا قليلاً... والناس تعرف ذلك جيداً، ولذا رأينا أن عدد المدنيين الذين خرجوا من الغوطة الشرقية باتجاه إدلب كانوا أقل بكثير من الذين بقوا فيها.
ولكن لماذا تفريغ المناطق؟ أو بكلام آخر: (لماذا يسعى أولئك الذين يولولون ضد التغيير الديمغرافي، ويلقون المساندة بشكل غير مباشر من متشددي الطرف الآخر، إلى إنجاز التغيير الديمغرافي؟)
إنّ استمرار المعركة، واستمرار الاستنزاف، أي: عدم الوصول إلى الحل السياسي، هو الطريقة الوحيدة التي تضمن لفاسدي الطرفين الحفاظ على تجارتهم ومواقعهم، والحفاظ على المعركة يتطلب الحفاظ على انقسام المدنيين السوريين بين جبهتين متحاربتين عسكرياً، وهذا يتطلب توزع ملايين من السوريين على كل من الضفتين، دروعاً بشرية (بطريقة أو بأخرى)، من أجل استمرار المعركة. فإذا كان كل المدنيين، أو معظمهم، ضمن سلطة الحكومة السورية، فهذا يعني أن الحل قاب قوسين، والعكس بالعكس.
كما أنّ عمليات «التفريغ» و»التهجير»، تتضمن حساباً آخر أبعد مدىً من استمرار الحرب؛ ففي حال انتهت الحرب ومضت الأمور باتجاه حل يتضمن انتخابات، فإنّ السيطرة على أكبر عدد من السوريين، يضمن من وجهة نظر القوى المتشددة من الطرفين، السيطرة على أكبر عدد من الأصوات، وذلك بالأساليب التقليدية المعروفة في التأثير على نتائج أية انتخابات عبر الأدوات الأمنية والمالية، بما في ذلك إمكانات التزوير.
مشكلة هذا الحساب الأخير، أنّه يستند إلى أنّ الأمور ضمن الحل السياسي لن تختلف كثيراً عما كانت عليه خلال الأزمة وقبلها، في سورية، وفي العالم بأسره آنذاك...
يضاف إلى كل ذلك التعقيدات ذات الطابع الإقليمي؛ فمن مصلحة الأتراك مثلاً، أن يوجد ضمن مناطق النفوذ التي يهيمنون عليها، أكبر عدد ممكن من السوريين، لأن هؤلاء بالنسبة لهم أوراق كلما زادت زادت حصتها من الحل (يتضمن ذلك حسبة الانتخابات)...
جوهر المسألة برمتها، أنّ الأمور بالمعنى الواقعي الملموس تسير لغير مصلحة المتشددين؛ فالعمل المسلح ينحسر أكثر فأكثر، والمدنيون يخرجون بأعداد متزايدة من ساحات القتال، التي يمكن تسميتها بساحات «التشبيح الديمغرافي»، لأنّ المدني فيها ضحية يجري قتلها واستخلاص أكبر ربح ممكن منها، بدءاً بالنهب الاقتصادي والترهيب بالوضع الأمني بأنواعه المختلفة، ومن ثم إذا قتل فإنّه يتحول إلى صورة وخبر إعلامي وقصيدة شعرية... وإلخ الهدف منها: هدر مزيد من الدم، وتغذية المعركة بوقود إضافي كي لا تنطفئ...