جدل التغيير والتحرير

جدل التغيير والتحرير

أثار توقيت قرار ترامب الاستفزازي بشأن القدس المحتلة، العديد من الأسئلة، وأولها: ما الذي دفع صاحب القرار الأمريكي، إلى الاقدام على هذه الخطوة الاستعراضية، في توقيت تجمع فيها جميع النخب، الفكرية والسياسية الأمريكية، والغربية والعالمية على التراجع الأمريكي، أي: أن القرار لا يتسق مع واقع حال الدور الأمريكي المتراجع، لاسيما وأنه يتعلق بساحة وقضية حساسة، يمكن ببساطة توقع ردود الأفعال عليها.

الزمان 1948_ المكان فلسطين المحتلة.. صرح بن غورين، مؤسس دولة الكيان الصهيوني في ما يسمى «مؤتمر الشباب اليهودي» قائلاً: «لا تظنوا أننا انتصرنا بقوتنا، نحن انتصرنا بضعف خصومنا»
تكشف جملة الأزمات المستوطنة في بلدان المنطقة، عن حقيقة أساس، طالما تم إنكارها، أو تجاهلها، من قبل أغلب النخب السياسية، بغض النظر عن اصطفافاتها ومواقعها وتخندقها الراهن، وهي: العلاقة التي لا تنفصم بين عملية التغيير والتحرير، فالأزمات في عموم بلدان المنطقة، سواء التي تعاني من الاحتلال المباشر، أو من التدخل الخارجي غير المباشر، أو التي تعاني من قوى الإرهاب الفاشي، كأداة لتعميم الفوضى، وإن كانت تكشف من جهة عن خطورة المشروع الإمبريالي الغربي، فإنها تكشف أيضاً، عن هشاشة البنى التقليدية القائمة جميعها، وتهالك الفضاء السياسي القديم، وسهولة اختراقه من قبل الأعداء، وعجزه عن مواجهة هذا التحدي الوجودي، بغض النظر عن التفاوت بين هذه الدولة أو تلك، أو هذه الحركة أو تلك، مما يفرض على جدول الأعمال، ضرورات التغيير، ليس باعتباره حقاً مشروعاً لشعوب هذه البلدان فحسب، بل أيضاً باعتباره ضرورة وطنية، لمواجهة التدخل الخارجي، بأشكاله كلها، وبمستوياته كلها، فالتغيير الوطني الديمقراطي الجذري والشامل اقتصادياً_ اجتماعياً، وسياسياً، بات السبيل الوحيد لإطلاق المارد الشعبي من القمم، وزجه في هذه المعركة الوطنية بمعناها الواسع والعميق.
بات متفقاً عليه، أن البشرية أمام لحظة انعطافية حاسمة، فقوى الهيمنة التي تحكمت بالقرار الدولي، خلال العقود الماضية، باتت عاجزة وبوضوح عن فرض إملاءاتها، والتحكم بالمشهد الجيوسياسي العالمي، وبات جلياً أن هذه القوى تفقد أدوات هيمنتها الواحدة تلو الأخرى، الاقتصادية، والسياسية والعسكرية، وأن محاولاتها كلها في الحفاظ على مواقعها التقليدية تفشل، لا بل أنّ أية محاولة من هذا النوع سرعان ما ترتد عليها فشلاً وتراجعاً، وفقداناً جديداً للمواقع، وضمن هذه الرؤية، وعلى أساس هذا الواقع، يجب أن تصوغ القوى الوطنية والديمقراطية والثورية في بلدان المنطقة، مهامها، وسياساتها، باعتبار أن المنطقة، إحدى خطوط التماس في الصراع بين القديم والجديد عالمياً، حيث بات بالإمكان وفي الأفق المنظور، إلحاق الهزيمة ليس بالتحديات الخارجية المباشرة، من احتلال وقواعد عسكرية فقط، بل بالإضافة الى ذلك في مجمل الفضاء السياسي القديم ومنطقه، الذي عمل في أحسن الأحوال، بمنطق التكيف مع الوضع القائم، أو إدارة الأزمات، وليس حلها، وذلك جهلاً أو تجاهلاً، رغم أن التوازن الدولي الجديد، والقوى الصاعدة، بما تمتلك من أدوات، وبما لها من استراتيجيات، توفر إمكانية واسعة، لتحولات جذرية وعميقة لصالح البلدان والشعوب.
إن المعركة الوطنية في ظروف اليوم، معركة مركبة تجمع بين الوطني بمعناها العام، وبين الاقتصادي الاجتماعي، والديمقراطي، لدرجة بات من البديهي، عدم القدرة على إنجاز أية مهمة من هذه المهام بمفردها، دون الأخرى، فخوض المعركة الوطنية ضمن هذه الرؤية_ تكامل المهام الوطنية والاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية_ من شأنه أن يضع الصراع في مساره الصحيح، والواقعي، أي: بين الوطني واللاوطني، وتجاوز الانقسامات الطائفية والقومية والدينية كلها التي تفاقمت خلال السنوات الأخيرة في بلدان المنطقة، ويصل بالصراع إلى نهايته المنطقية في الحفاظ على استعادة سيادة واستقلال هذه البلدان، وكرامة شعوبها، حيث لم يعد كافياً اليوم الوقوف سياسياً، ضد المشروع الغربي، على أهمية ذلك، بل تفرض اللحظة ضرورة تجذير المعركة الوطنية، وضرب المرتكزات الموضوعية للمشروع الغربي، في دول المنطقة التي تتجسد باللبرلة الاقتصادية، والفوضى، والخطاب الطائفي، وتقييد الحركة الجماهيرية.