(الشرق الأوسط) ينتهي...

(الشرق الأوسط) ينتهي...

(الشرق الأوسط) التسمية الغربية لمنطقتنا، وأصبحت عنواناً لقلب الاضطراب السياسي العالمي في النصف الثاني من القرن العشرين، منذ أن وضعت الإمبريالية الغربية، قاعدتها العسكرية المتقدمة، الكيان الصهيوني على أبواب الشرق، في عقدة الوصل العالمية الوسطى، وفي خزان الثروة النفطية العالمي. وإن كانت التوصيفات السابقة تبدو خشبية للبعض، فإن هذا الخشب الغربي العتيق يتصدع بالفعل اليوم، وتولد معالم أخرى لمنطقتنا.

مجموعة من الأحداث في 2017 لها دلالة على تغيرات كبرى في منطقتنا، تتبلور لتنتج جديداً في القريب القادم...

إقليمية أستانا... الأمريكان برّا
نهاية عام 2016، وفي سياق الأزمة الأحمى عالمياً، أي: الأزمة السورية، اجتمع في موسكو كل من ممثلي روسيا وتركيا وإيران، واتفقت الأطراف بحاضنة روسية على تولي مهمة إخراج الأمريكيين من صياغة الحلول لأزمات هذه المنطقة، وهي سابقة، وعلامة فارقة. فبعد أن أعلن الأمريكيون عدم التزامهم باتفاقية وقف إطلاق النار في سورية، التي عقدوها مع الروس، قدموا حافزاً جدياً للقوى الإقليمية المتضررة من استمرارية الأزمة السورية، والفاعلة فيها، لتتلقف الدعوة الروسية إلى وقف إطلاق النار، بدور فاعل للضامنين الثلاثة: الروس والإيرانيين والأتراك. والأهم، أن هذه العملية نجحت إلى حد بعيد في إنشاء مناطق خفض التصعيد في سورية، ولعبت دوراً سياسياً فعالاً في تحريك العملية السياسية الدولية في جنيف برعاية الأمم المتحدة. فكان هذا الحدث تعبيراً مباشراً عن تحول الوقع السياسي العالمي، من الإقليمي إلى الدولي، أي: تغير في الموازين. فما لا يحل بتوافق دولي: يمكن حله بتوافق إقليمي، وسيقف الغرب عاجزاً عن إيقاف جدّي للمسار، بل سيسعى للحاق.
وعندما تبدى أن قوى التشدد المحلية والإقليمية والدولية الأخرى تناور بتعطيل المسار السياسي، عادت القوى الإقليمية ذاتها، وأيضاً بحاضنة روسية لتحرك مسار الحل السياسي، عبر الحديث عن مؤتمر الحوار الوطني السوري، المزمع عقده في سوتشي. أي: أنها عادت لتضبط إيقاع حل الأزمة السياسية السورية ذات البعد العالمي، وتهدد وتلوّح بأنها ستعمل في اتجاه الحل، وفق القرارات الدولية و2254 تحديداً، متوقعة بأن تتكرر تجربة الأستانا ويلتحق بها الركب السياسي العالمي.
الأستانا، والتعاون السياسي الروسي_ التركي_ الإيراني لحل الأزمة السورية، دلالة على أن ممارسات الأمريكيين في (الشرق الأوسط) بدأت بالتحول إلى ردود أفعال ومواكبة، للأفعال الإقليمية المستقلة نسبياً.

مشروع الفاشية... وأزمة الخليج
في 2017 اتضح بأن المشروع الفاشي الغربي في منطقتنا، المتمثل بقوى الإرهاب: داعش والنصرة، أصبح في خبر كان... وبدأت التقيحّات والآثار تظهر على كل القوى الإقليمية المرتبطة عميقاً بالغرب، والتي تحولت إلى أداة مالية لهذا المشروع. وكانت الأزمة الخليجية بين قطر والسعودية بالدرجة الأولى هي التجلي الأبرز. فما كادت تبرد صور الرئيس الأمريكي ترامب مع قادة الخليج، في زيارته التي وصفت بالتاريخية إلى المنطقة، حتى اندلعت الأزمة بين أطراف الخليج العربي، وتبين بأن فشل المشروع الفاشي، يبحث عن ضحية ليتم تحميلها المسؤولية، ولعبت الولايات المتحدة دوراً سلبياً في المناورة بين أطراف الأزمة، وإيقادها. ثم ما لبثت السعودية أن عبرت عن التناقضات التي تعصف بحكمها، ومنظومتها، بما سمي بالانقلاب السعودي، عندما انتقلت تباينات الأسرة الحاكمة إلى العلن، وجرت وتجري عملية مركزة للمال والسلطة السعودية، لا تزال عواقبها السياسية والاجتماعية مفتوحة على احتمالات عدة.
أي: عملياً تلقت القوى الإقليمية المرتبطة بمشاريع الغرب الفاشية، ضربة سياسية كبرى، وأصبحت تحاول لملمة خسائرها، ليضعف تأثيرها السلبي على سير الأحداث السياسية في المنطقة، ليتجلى هذا بفشل مشروعها التصعيدي في اليمن، ومحاولتها البحث عن مسارب ضيقة وواهية للدخول إلى حل الأزمة السورية، وأخيراً، المحاولة الفاشلة للتصعيد في لبنان، وتتحول تدريجياً التصريحات النارية حول التصعيد الإقليمي ضد إيران إلى مجرد تصريحات، رغم أنها مدعومة بفقاعات ترامب النارية.
مال الخليج، يدفع أثماناً غالية لارتباطه العضوي التاريخي بالمنظومة الغربية المتراجعة، ويحاول أن يخرج من الدوامات التي أدخله فيها الغرب، الذي لا ينأى عن استثمار حلفائه حتى الرمق الأخير، وإن كانت النتيجة تدميرهم. ولكن مقابل هذا ظهرت في عام 2017 بوابات مفتوحة للسعوديين والخليج عموماً في الشرق، فعدا عن العلاقات الاقتصادية القوية بالصين، التي تورد لها السعودية الجزء الأهم من نفطها، فإن الصين تفتح أفقاً جديداً بالقوة واللين: والمثال الأبرز، هو: العرض الذي قدمته الصين للسعودية لتشتري منها نسبة 5% من شركة أرامكو بسعر 100 مليار دولار، شريطة مبادلة النفط السعودي باليوان، وليس بالدولار... واستثنائية هذا العرض تتأتى من الضغط الذي يمارسه الغرب على السعودية، حيث كسّرت البورصات وشركات التقييم الغربية من القيمة السوقية لشركة أرامكو الحكومية، لتفرض على السعوديين البيع الرخيص.
الخليج العربي أمامه خيارات صعبة، فإذا أبقى ارتباطه العضوي بالغرب، فإنه قد يخسر سوق نفطه الأساسية، ويخسر من تهميشه في الحلول المدفوعة إقليمياً لأزمات المنطقة، بينما فك الارتباط العميق مع الغرب ليس بالأمر السهل. ولكن المؤكد أن الخسارة من فك الارتباط أقل من إبقائه.

التوتير الكردي واحتواؤه
حاولت قوى الفوضى العالمية الغربية وما تزال، أن تطلق شرارة التوتر الإقليمية الأخرى، عبر الصراع القومي، وتحديداً عبر استغلالها لحقوق الشعب الكردي في دول المنطقة، ومحاولة ركوبها على ظهر مظلوميتهم التاريخية وقضيتهم المحقة. وهي بهذا تفتح بوابات جديدة للصراع في أربع دول إقليمية: تركيا_ إيران_ العراق_ وسورية. ورغم المخاطر التي لا تزال تلوح في هذا السياق، إلا أن أول وأهم صاعق تفجير قد تم تجريبه في عام 2017، ولم ينجح في التمدد والاشتعال. فعندما غازل الغرب سراً طرح القوى القومية الكردية في إقليم كردستان العراق، ودفعهم نحو الاستفتاء على الاستقلال، لم تكن النتيجة مرضية للغرب، حيث امتنعت القوى الإقليمية والمحلية في العراق عن الإيغال في الصراع، رغم أنها لم تلعب دوراً إيجابياً كاملاً، ولكن المعركة لم تنشب، ولم تتوسع، وتم احتواؤها حتى الآن. حيث تبين أن هذه الورقة لم تعد سهلة التفجير كما كان متوقعاً، وتبين أن القدرة على لجم معارك جديدة في المنطقة ممكنة في الظرف الدولي الجديد.

القدس واللعب بالنار
أخيراً، تأتي مسألة القدس، وإعلان ترامب عن نيته نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة للكيان. وهذه المحاولة الأمريكية التي تدل على فراغ جعبة الدبلوماسية الأمريكية من أية حلول للقضية الفلسطينية، التي تولتها الولايات المتحدة منذ ما قبل أوسلو. حيث تعمد السياسة الأمريكية اليوم، إلى إيقاد نار القضية الفلسطينية، في هذه اللحظة، وتستخدم أداة المقدسات الإسلامية، علّها تنجح في تحويل الغضب الوطني المحتوم، إلى حمّى دينية تفتح بوابات الاضطراب في المنطقة، على أنظمة التطبيع المهترئة، معتقدة بأنها قاعدة انطلاق جديدة لفوضى تعرقل استقرار المنطقة، عبر تشابك الملفات. ولكن الولايات المتحدة تعلم قبل غيرها، بأن هذا الخيار قد يكون أقل أثمانه وأولها خروجها من القضية الفلسطينية، وهز أركان السلطات الهشة التي وضعتها على قلب الفلسطينيين منذ أوسلو، والأهم أن هذا الخيار، قد لا يؤدي إلى الفوضى بالضرورة، بل قد يجعل مصير (إسرائيل) والمطبعين معها على المحك، ويشكل سمتاً راسخاً لقوى الفضاء السياسي الجديد، التي تولد من مخاض منطقتنا، حيث يتكثف صراع العالم القديم مع الولادة الجديدة.