ما أصعب «نورماندي اليوم» يا أمريكا!
ليلى نصر ليلى نصر

ما أصعب «نورماندي اليوم» يا أمريكا!

في شهر حزيران من عام 1944 كان واضحاً أن الاتحاد السوفييتي قد قطع أشواطاً في هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية، وفق ما يوثقه معهد أيزنهاور الأمريكي، وفي حزيران من ذلك العام أنزلت قوات الحلفاء للمرة الأولى قواتها للحرب المباشرة مع النازية الألمانية في منطقة النورماندي في الشمال الفرنسي...

لقد أصبح إنزال النورماندي رمزاً نستخدمه اليوم للتعبير عن قرار رأس المال العالمي بالمساهمة المباشرة في نصر القضاء على الفاشية التي اقترفت يداه.
متى سيكون الإنزال الحالي؟! فالولايات المتحدة على اعتبارها مركز رأس المال الغربي المأزوم، ومنبع الأسباب الموضوعية والعوامل المادية لنشأة فاشية القرن الحادي والعشرين المتمثلة بظاهرة الإرهاب، ستسعى للمساهمة في النصر النهائي على الإرهاب، وستبدأ بإطلاق النار على أقدامها، هكذا يقول المنطق.. ولكن المعركة ضد الإرهاب في منطقتنا على وجه الخصوص تتصاعد وتقطع أشواطاً، وداعش كواحدة من أهم التجليات تنحسر، ولا تبدو الولايات المتحدة بعد قادرة على أخذ القرار الموحد والمضي بقوة في جني المكاسب السياسية للنصر على الفاشية، ولعل السؤال المحق هو: لماذا تتأخر الولايات المتحدة ورأس المال العالمي؟ وهل يعقل أن يضيعوا الفرصة؟!
ربما لكي نجيب علينا أن نعود إلى النورماندي ومنتصف القرن العشرين، فلحظة المشاركة في القضاء على فاشية هتلر، أتت في الوقت الذي حققت فيه الفاشية دورها الوظيفي المطلوب: حجم هائل من الدمار، تأخير كبير وخسائر بشرية ومادية هائلة للاتحاد السوفييتي، تمركز كبير للثروة كالذهب مثلاً في المركز الرأسمالي الجديد في الولايات المتحدة، وامتلاك القنبلة الذرية، والأهم نقلة تكنولوجية وإنتاجية ومعدل ربح مرتفع يقوده قطاع السلاح العالمي المنتعش وسط الدمار، كانت الفاشية والحرب قد أمنت الشروط الكاملة للخروج من الأزمة الاقتصادية العميقة، بتمركز أعلى ومعدل ربح أعلى، تلك الشروط التي أتاحت الدخول في العقد الذهبي في عمر الرأسمالية في الخمسينات، وعادت أزمة الربح والنمو لتظهر في السبعينات.
لقد كان التفاوض في تلك المرحلة مجدياً لقوى رأس المال العالمية، لأن التأخر كان يعني نصراً سوفييتياً مطلقاً، وخسارة سياسية كبرى، والتبكير كان يعني تقليص فترة الدمار والمكاسب الناجمة عن الحرب مباشرة، والفاشية كانت قد أدت وظيفتها.
ولا شيء مما سبق يتوفر لرأس المال العالمي اليوم، ففاشية القرن العشرين لم تستطع أن تؤمن حجم دمار وتأخير كافٍ للقوى الصاعدة العالمية، ولا زالت الأزمة الاقتصادية تتعمق وتصبح بلا مخارج، فلا إمكانية لتوسع أفقي، ولا إمكانية لتعمق عمودي يرفع معدل الربح، لأن رأس المال قد تمركز إلى الحد الذي لم يُبق مكاناً للاستهلاك وحتى لمزيد من الاستغلال، والأسوأ أن الأزمة الاقتصادية الحالية والحرب العالمية الأمريكية المعلنة منذ عام 2001 لمواجهتها، لم تستطع أن تنشئ مركز قوي جديد، بل تزيد من تفسخ المركز الأمريكي الغربي، وتنقل اضطراباته وانقسام نخبه للعلن، وتطرد الحلفاء بل وحتى الأتباع وتتركهم بلا مرساة قرار كما اعتادوا خلال أكثر من سبعة عقود...
لحظة الإنزال النورماندي ستأتي قريباً، ولكنها «محزنة» لقوى المال العالمي، فهي لا تشبه لحظة النصر وجني الغنائم السابقة، بل هي لحظة إعلان الخسارة، ولذلك فإن النخب الراعية للخيار الفاشي تريد أن تستمر في الحرب وتؤخر قدر الإمكان لحظة تحمّل الأوزار، بينما شريحة أخرى من نخب المال العالمي تقول أن لحظة إنهاء الفاشية آتية لا محالة، وسنخسر كل شيء إذا ما تمت دون مشاركتنا ولو شكلياً، كما أنهم يرون عواصف الأزمة المضطربة القادمة والتي ستعصف بالولايات المتحدة اجتماعياً وسياسياً ويريدون أن يسخروا قواهم للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه.
إن أحداً ما لا يتمنى أن يكون في موقع إمبراطورية عالمية تهتز أسس هيمنتها وتقترب النيران من داخلها وتقف متخبطة وسط انقسام عميق.

معلومات إضافية

العدد رقم:
816