مراجعة للحراك الشعبي ومآلاته السياسية

نمتلك كسوريين لحظة تاريخية للقيام بمراجعة جدية لواقع عملية التغيير، فأن تنطلق الحركة الشعبية هو نتيجة  موضوعية  لواقع تراكمت فيه التناقضات وازدادت حدة. البداية كانت في درعا ومن ثم تتابعت الأماكن ..

اتخذ  النظام موقفا سياسيا شبه ثابت تجاه الحراك تمثل بالحديث عن المؤامرة والمسلحين ، وبعض المطالب المشروعة ،و كانت الترجمة العملية على الأرض لهذا الخطاب العنف والقمع والاعتقال ومناكفات دولية لم تغير من واقع الحال شيئا يذكر وخطاب إعلامي زاد احتقان الناس جراء عقليته الانكارية والاقصائية ، ترافق ذلك الحديث بفكرة الحوار وإصلاحات ديمقراطية كان أهمها الدستور الجديد رغم مابه من سلبيات ..

ظلت المعارضة السياسية رهينة ردات الأفعال المباشرة على سلوك النظام، فكل مايدّعية النظام هو محض افتراء، لاحقا بلورت المعارضات السورية عدة خطابات سياسية تباينت في مستوى نضجها، كان أهم المحددات التي فرزت على أساسه خطابات المعارضة هو موضوعة التدخل الخارجي.
اختار المجلس (الوطني) طريقه بكل وضوح، فلا تغيير دون تدخل عسكري محاولا استنساخ التجربة الليبية والعراقية . اشتقت هذه القوى لاحقاً فكرة تسليح المعارضة بشكل واسع ممول خليجيا بدلا عن فكرة التدخل العسكري المباشر، بدورها اتخذت هيئة التنسيق  موقفاً متذبذباً من هذه الفكرة رغم رفضها الجازم للتدخل العسكري ومطالبتها المجتمع الدولي بأخذ مواقف سياسية وإنسانية للضغط على النظام!! وان الأولوية لوقف نزيف الدماء والحوار مشروط بتنحي رئيس الجمهورية..
ظلت الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير على موقف حاسم ضد التدخل الخارجي بكل اشكاله عربيا ام اجنبيا واجترحت مفهوماً للحوار الجاد يقوم على الندية ومشاركة الحركة الشعبية ، وأطلقت لاحقاً فكرة حكومة الوحدة الوطنية ذات الصلاحيات الواسعة والمهمات السياسية والتي ظلت رهينة تباطؤ النظام من جهة، ومحاولة مجلس اسطنبول سحب هذا الخيار لمصلحته عبر قرارت الجامعة العربية ( طالبت الجبهة الشعبية بحكومة الوحدة مفوضة بصلاحيات توقف العنف وتفرج عن المعتقلين السياسيين وتحاسب كبار الفاسدين وكل من اراق دماء بغير وجه حق وتقود المصالحة الوطنية وتدعو إلى حوار شامل  لإنجاز مهمات التغيير الجذري الشامل..
كانت الحركة الشعبية أكثر المغبونين كونها الطرف الأساسي الذي  يجري الصراع حوله، فالأطراف المختلفة تنشد إما كسب ود هذا الخزان الهائل أو تسعى إلى قمعه، نتج الغبن عن ابتعاد معظم من تصدر المنابر الإعلامية عن تمثيل مصالحه، أصيب البعض بالإحباط فغاب عن ساحات التظاهر ناهيك عن عمليات العنف و الاعتقال السياسي، لكن الأبرز هو لجوء فئات واسعة منه إلى حمل السلاح بعد أن أطيح بأحلامه بالتغيير أو عن طريق دفع ممنهج إلى هذا الطريق وتصويره كطريق وحيد للحل.
إن الحركة الشعبية سلمية البنيان عضوياً اي أن مصلحتها الحقيقية -سواء وعت ذلك ام لم تعِ -هو  الابتعاد عن التسلح لأن ذلك سيخضع النجاح إلى احتمالات المعركة العسكرية، ناهيك عن مصادر السلاح التي تفضح كل يوم مآرب الطامعين بالسلم الأهلي السوري، زد على ذلك أن أغلبية الشعب السوري يرفضون هذا الطريق، وحتى من حملوا السلاح كرها وهم فئات موجودة بكل تأكيد ليست بوارد الاستمرار بالفكرة إلا من باب آخر الدواء الكي.
يخوض المجتمع الدولي صراعا تاريخيا على سورية فبعد الدبل الفيتو الأول جاء الرد الصيني- الروسي بالضربة القاضية على وجه الغرب الذي استمرأ كثيراً فكرة التدخل العسكري  لدواعيه ( الإنسانية) ، اهتز عرش القطب الأوحد أخيرا وبات واضحا أن الولايات المتحدة غير قادرة على شن أحد أهم حروبها المنتظرة لتفريغ أزماتها الداخلية، وتجهد بعض الأنظمة العربية أو الأقليمة في تعويض الدور الاميركي محاولين دفع الأمل في نفوس أبطال الثورات المضادة ( يصر كل من حمد بن جاسم وسعود الفيصل على ضرورة تسليح المعارضة بينما لم تلق أي قوة مقاومة عربية  دعما سياسيا أو عسكريا خليجيا، كلنا نتذكر وصف الملك السعودي للمقاومة اللبنانية بالمغامرين سنة 2006 عندما كانت اسرائيل تجتاح حرمات البلاد والعباد)..

 

إلى السلاح أم الى السياسة !!
يفضي الصراع في سورية الموصف أعلاه إلى مرحلة انعطافية ضمن  الحراك السوري. فمن خرج للتغيير يقف اليوم على مفترق طريق حول أدوات التغيير، وبعد العفوية التي قدسها الحالمون والتي صاغت معظم مفردات وآليات الفترات الأولى من الحراك، يتبلور موقف سياسي أي مصلحي ليس من عملية التغيير فحسب، بل من أداة التغيير وهنا لابد من الوقوف مطولا حول مهمة الحركة السياسية التي تعد أداة التغيير الأساسية في المجتمع.
لم يعد مقبولا من القوى السياسية اليوم أن تتحدث عن ظاهرة التسلح بمعزل عن بعدها السياسي، فمعظم التسلح خرج من العفوية ليصبح أداة التغيير في يد (المجلس الوطني ) ومن يدعمه ( على مايبدو سيلعب مجلس اسطنبول دور فريق 14 اذار في لبنان ودور فريق اوسلوبمنظمة التحرير، ففي الساحة السورية تسعى واشنطن إلى زرع جسم سياسي  للتأثير على بناء الحياة السياسية اللاحقة في بلد لم  يبلور تيار الخيانة فيه جسماً سياسياً واضحاً ). أما الناس عموما تقترب من أخذ موقف واضح وغير تبريري كما في السابق من ظاهرة التسلح، وهي بذلك  تصبح أكثر موضوعية من أغلب القوى السياسية التي مازالت ترى في التسلح محاولات عبثية او شطحات أو ردات أفعال . فالجماهير تتعلم من تجربتها  الحالية، أما الحركة السياسية فإما أن تسهم في بناء المستقبل مستندة لرؤية ناضجة من تجربتها السابقة، أو أن تبقى رهينة قراءات الماضي المتخلفة، وهي بذلك تسهم باطلاق النار على الواقع وكل مفرزاته الجديدة.
لم يعد مسموحا على الحركة السياسية اليوم انتظار ماسيعطيه النظام بل عليها أن تطرح برنامجا يعكس مصالح أغلبية الشارع ويراعي مراحل التغيير، فعدم نجاح الشكل المفترض يعني بكل بساطة عدم استكمال الشروط المطلوبة للتغيير. وإن عدم طرح برامج عملية بديلة يعني عجزا سياسيا فاضحا يفضي للتحول إلى أدوات أُخرى تعوض القصور التاريخي لهذه الحركات ولكنها ترفع تكاليف التغيير إلى حد الانتحار.
إن المطلوب اليوم انخراط  جميع الجماهير بالنشاط السياسي وبمختلف الأشكال المتاحة. إن حديث السياسيين المتكرر عن الدماء ليس إلا اختباء من المهام المرحلية التي يجب أن تصوغها الحركة السياسية، آخذة بعين الاعتبار ان هذا الانخراط لايعني مطلقا تبرير استمرار النظام بتعطيل الحياة السياسية  ولايعني الارتهان لسلوك النظام أيضا، كما ينبغي لها الأخذ بعين الاعتبار الدور الذي لابد أن يلعبه جهاز الدولة في عملية التغيير  حسب خصائص الظرف السوري الملموس، وذلك لتسهيل انخراط الجماهير في الحركة السياسية منطلقة من الدور التاريخي الإيجابي الذي لعبه هذا الجهاز رغم إنه يشكل قوة عطالة  في عملية التغيير الحالية.  ..

معلومات إضافية

العدد رقم:
543