الليبرلية الاقتصادية والسلم الأهلي!

تشهد الأزمة السورية لحظة حرجة، تتمثل بخطر الاقتتال الأهلي الناجم بشكل مباشر عن اصطفافات تبدو شديدة التباين بين مؤيد ومعارض، مع لواء الطائفية المرفوع، بداية بشكل مبطن، وحاليأ بشكل واضح وجلي في خطاب وموقف السوريين، وفي أبواق إعلام الطرفين لتطغى المفردات والإشارات و الحوادث الطائفية المتفرقة والفردية بداية، والممنهجة لاحقاً، وتحدد شكل الصراع لدى الأغلبية الشعبية، حتى أصبحت  الحرب الأهلية نقطة محورية تنطلق منها كثير من المواقف المتعلقة بحل الأزمة، وأصبحت  بالمقابل استعصاء يتطور بعفوية نتيجة العنف، ونتيجة الرؤى المغلوطة.

 

فمن يرى أن سبب الحرب الأهلية هو «سلوك طائفي للجماعات المسلحة»، يذهب بشعارات «ضد الطائفية» إلى تأييد عملية القضاء على العصابات المسلحة بكافة الوسائل الممكنة، مشروعة أو غير مشروعة..
ومن يرى أن سبب الحرب الأهلية هو سلوك النظام، وأجهزته الأمنية يذهب إلى مواقف متشنجة، تتراوح بين  نبذ النظام وأوساطه، ومبادراته السياسية، وتصل حتى إعلان السلاح طريقاً وحيدأً للحرية..
أي أن الرؤية المتطرفة لطرفي الأزمة في سورية، تدفع إلى إيقاد سعار الحرب الأهلية، درءاً لها أو يأساً من إمكانية تجنبها، إذاً من أين يجب الانطلاق لمنع الحرب الأهلية؟
البحث في المسببات العميقة أو ما يمكن تسميتها بالمجهزات، التي تجعل العديد من الأوساط الشعبية جاهزة للدخول في حالة الاقتتال الأهلي، وردات الفعل الدموية.. يتطلب تعميق الرؤية والبحث عن عوامل أكثر موضوعية تجمع وبشكل عميق البيئات المتنازعة، والتي يشكل العامل الاقتصادي- الاجتماعي جذرها العميق، أي محرك المصالح المتعلق بأسلوب العيش وأسلوب إنتاجه، والمتعلق بكرامة المواطن السوري التي كانت تتعرض لجروح متصاعدة منذ عقود عديدة، وتعمقت بشكل أساسي منذ بداية الألفية ، لتصل إلى حدها الأقصى مع عام 2005 وحتى انفجار الأزمة..

أوساط واسعة من البيئات السورية كانت تدفع أثماناً مرتفعة نتيجة تدهور مستوى معيشتها، تتراوح بين الضغط على كل مقدرات التطور الاجتماعي لدى الأغلبية، وتصل إلى الضغط على قدرة معيل الأسرة السورية على تأمين الغذاء الضروري..ازداد الفقر وظواهره ويمكن اعتبار محرك التدهور كان مع القضاء التدريجي على تطور الريف السوري.
الريف:
تدهور البيئة الريفية الرئيسي هو من تدهور الزراعة السورية ، ومن الإخلال بقوانين تطورها، فمع زيادة تفتيت الحيازات، وعدم توظيف الفائض الزراعي، والدخول المتزايد للحلقات السوقية الوسيطة بين المنتجين والمستهلكين، وعزل البيئات الزراعية عن التطور الصناعي، أو ما يسمى بمركزة التنمية.كل هذا عرض بنية الريف السوري للتجريف، فبدلاً من إمداد الريف بمحركات نمو، تم تضييق الخناق على موارده وعلى سكانه، وتمت عمليات الهجرة القسرية غير المباشرة من الريف السوري إلى أطراف المدن بشكل كبير، وبعملية أخلت بتوازن التركيب السكاني للريف، حتى باتت بعض قرى ريف الحسكة والمنطقة الشرقية عموماً تكاد تقتصر على الكبار بالسن، أخليت من جزء كبير من طاقتها المحركة وهمشت بشكل واسع وتم اعتماد سياسة الصدقة، كخطط حكومية، تستتبع فشل المشاريع التنموية الطنانة التي تتنتظر المستثمرين، كما في المنطقة الشرقية..
هذه البيئات التي حافظ استقرار الزراعة لفترات طويلة على استقرار نسبي لبناها الاجتماعية التقليدية، تعرضت لصدمات عميقة مع التدهور السريع، وتم البحث عن حلول معيشية أمام واقع لا يتيح الكثير من البدائل السليمة، وإنما يتيح بدائل أخذت طابع الاقتصاد السوري المتدهور من الاقتصاد الإنتاجي المستقر نسبياً، إلى اقتصاد ريعي خدمي، ومن هنا كان انحدار الخط البياني لمستوى المعيشة في الريف السوري، مع كل مؤشراته من نسب الأمية والتعليم، نسب التعليم الجامعي، نسب التوظيف، تدهور الأوضاع الصحية، فالدولة السورية تخلت عن دور الضامن  الاجتماعي، وكان لا بد من البحث عن بدائل لم تؤمنها سوى البنى التقليدية السابقة أي العشائرية والدينية والطائفية، والتي لا تستطيع أن تؤمن ملجأً بالمعنى الاقتصادي الاجتماعي، إلا بمقدار وزنها، والذي كان يعتمد على حالات  توافقية داخل بنية الدولة السورية، حيث تم إعطاء بعضها استقراراً نسبياً، تطور ليأخذ شكل التوافق مع الفساد أو التكيف معه، أو محاصصته، وتحديداً في الاقتصاد غير المشروع، وهو ما يفسر حالة ميليشيات التهريب المحلية في القرى الحدودية، مع ما تحمله العملية غير الشرعية من ريع كبير.
 لا يمكن اعتبار هذه الحالة هي الواقع العام الناشئ في الريف السوري، وإنما التدهور الاقتصادي والاجتماعي هو السمة العامة، حيث ترك غالبية أبناء الريف السوري، أمام بديل واحد هو الزحف نحو المدن السورية الكبرى بداية، ثم مع اشتداد التأزم نحو جميع المدن السورية.

الهجرة وتغيرات المدن السورية:
شهدت المدن السورية خلال العقود الماضية توسعاً كبيراً أيضاً كان لهذا التوسع شكل التغيرات العميقة في بنية الاقتصاد السوري، حيث كانت مؤسسات الدولة المتنوعة والمتمركزة في المدن الكبرى هي المحرك الرئيسي من مؤسسات انتاجية، إدارية، تعليمية (الجامعات والمعاهد)، إلى المؤسسات الخدمية وغيرها، شكل توسع جهاز الدولة ومؤسساتها إطار التوسع في مرحلة معينة، لكن تراجع هذه المؤسسات وضعف الدور الإنتاجي والخدمي للدولة السورية، حرم هذه المؤسسات من ميزتها، وحرم السوريين من أبناء الريف والمدن من قواعد الضمان الاجتماعي هذه، كانت البدائل في المدن أوسع منها في الريف وأخذت طابعاً خدمياً وريعياً، وإنتاجياً أحياناً لكن بإطار أضيق، لم تستطع هذه الأطر البديلة أن تستوعب إطلاقاً التوسع الهائل للمدن السورية، والضغط المتزايد القادم من الريف، حتى أنها لم تستطع أن تؤمن بديلاً لأصحاب الكفاءات عن قطاعات الدولة المتهاوية أو المتراجعة عن ضماناتها السابقة، ومن هنا أخذ التوسع أشكالاً مشوهة، تمثلت بالمناطق العشوائية وأحزمة الفقر التي تحيط المدن السورية، بيئات ريفية متباينة وخارجة من بناها التقليدية قسراً لتوضع في واقع شديد الصعوبة، وتحت ضغط الاستمرار بالعيش، أمام بيئة عمل متمثلة بقطاع خاص بطابع ريعي خدمي نخبوي، أو بطابع مؤسسات تشهد معدلات وحالات استغلال عميقة، مقابل قطاع عام متدهور، متروك للفساد والنهش، وغير قادر على التوسع وزيادة التوظيف.
أحاطت العشوائيات بالمدن السورية، وكونت مجتمعات تتكثف فيها حالة التهميش الاجتماعي والنبذ التي تعرض لها الريف السوري، مع كل مفرزات التفسخ الاجتماعي، التي تشير إليها نسب الجريمة المرتفعة، حالات التفتت الأسري، التسرب من التعليم، وعمالة الأطفال، ظاهرة التشرد، وكل الأعمال غير المشروعة، التي بدأت من التعاقد على البناء على أراضي الدولة، وانتهاء بالمتاجرة  بالممنوعات وتوزيعها، وبيوت البغاء وجميع معالم الانحلال الأخلاقي لدى بيئات المهمشين، تطلب ضمان الأعمال غير المشروعة ارتباطات مع الفساد وساد في هذه البيئات محركات اقتصادية هي حلقات وسطى وصغرى للفاسدين الكبار،ما يجعل هذه المناطق مرتعاً لكل هذه الممارسات، بشكل شبه علني مقابل تجاهل تام من المختصين، حيث كانت الأنظار تتوجه إلى العشوائيات، بانهيار مبنى على أصحابه، أو باندلاع مواجهات عشائرية أومسلحة على سبيل المثال، بينما الاحتقان الصامت الذي كان ينتشر على أرصفة الشوارع السورية بأشكال شتى، متشردين، منحلين، باعة جوالين، لم يكن ليجذب أنظار المسؤولين بل على العكس كان متسقاً مع حالة الفساد والتدهور الذي يعيشه الاقتصاد السوري، والذي يحميه كبار الفاسدين داخل جهاز الدولة، وخارجه.

مسير الواقع الاقتصادي السوري يفسر كثيراً من مظاهر التفسخ الاجتماعي، فمن حالة ضمان اجتماعي نسبي للغالبية إلى إنتاج الفساد وأثريائه ومنظومة حمايتهم التي تقتضي تهميش الأغلبية، وتدمير البنية الإنتاجية، غابت الدولة، وحضرت المكونات الضيقة المذكورة سابقاً دينية وعشائرية، مع عوامل سطوتها الاجتماعية والاقتصادية أحياناً المحمية من الفساد الكبير، وترك المهمشين لواقع لايتيح سوى الأعمال غير المشروعة كبدائل للريف المتدهور والورش المتدهورة، والبطالة التي عمت المدن السورية، وليتحولوا في لحظة الانفجار الحالية إلى ميليشيات جاهزة للتجنيد من الأطراف، أو جاهزة  للذهاب نحو العنف والعقلية الثأرية نتيجة الحقد المتراكم على تهميش الدولة لهم..
محركات الحرب الأهلية، ومهددات السلم الأهلي، هي نتاج لواقع متراكم تختصره البطالة الواسعة والتهميش الاجتماعي، ويختصره انزياح الدولة السورية من مصلحة غالبية السوريين ذوي الدخل المحدود، إلى مصلحة رؤوس الفساد الكبرى وكل الحلقات الوسطى والصغرى التي تخدمها، أما درء الحرب الأهلية فلا يقوم على الدعوات العاطفية والتباكي على الدماء، أو بالقضاء على « الطائفيين والعشائريين » في الطرفين، درؤها يكون بقلع شوكة الفساد الكبير، في هذه اللحظة المناسبة، و ذلك بتوحيد الصف لبناء الوزن الشعبي المناسب القادر على اقتلاعها، وتغيير عميق في بنية الاقتصاد السوري تمنع ظهورها مجدداً، أو تعطينا أدوات منعها.                           

معلومات إضافية

العدد رقم:
542