ستيركوه ميقري ستيركوه ميقري

دستور جديد ... ولكـن؟

يفيدنا العلم  ،بأن الأضداد توجد متوحدة  وفي صراع مستمر في كل الظواهر طبيعية كانت أم اجتماعية، وأن التراكمات الكمية التي تتراكم نتيجة لهذا التناقض التناحري بين الأضداد ينتج عنها كيفية جديدة  أكثر تطورا من سابقتها، وباعتبار أن طريق التطور ليس مستقيما بل لولبياً ، فإن هذه الكيفية الجديدة التي نفت الكيفية السابقة يجب أن تحافظ على كل ما هو إيجابي فيها ، وتعطينا في الوقت نفسه ظاهرة وكيفية أكثر تقدما وتطورا من الظاهرة السابقة .

وإذا بحثنا  الأزمة السورية من وجهة النظر العلمية تلك ، نستطيع القول أنها جاءت نتيجة حتمية للتناقض التناحري الحاصل بين القوى المنتجة من جهة وعلاقات الإنتاج من جهة أخرى، فنتيجة للتراكمات الحاصلة خلال عدة عقود في سورية ، أصبحت القوى المنتجة مقيدة بعلاقات إنتاج متخلفة عنها ( الثروة + السلطة + الفساد ) وأصبحت تشكل سدا منيعا أمام تطورها اللاحق ، لذلك كان لا بد من ضرب العلاقات السابقة ووضع علاقات جديدة متوافقة مع مستوى تطور القوى المنتجة ، وتتيح لها في الوقت نفسه أن تتطور لاحقا ، ولكن هذه التغييرات لا تصيب البناء التحتي فقط ، بل لابد من أن تطال التغييرات البنى  الفوقية أيضا ( الدولة والنظام السياسي والمؤسسات الحقوقية والثقافية والفنية والأخلاقية وغيرها) ، و التي منها تغيير الدستور الذي يعتبر ( القانون الأول ) في كل دولة والذي يجب على هداه أن تصاغ كل القوانين الأخرى .

ولا شك أن إقرار دستور جديد يقر فيه مبدأ سيادة القانون، أساس الحكم في الدولة  ،والتعددية السياسية وتحقيق الديمقراطية للأحزاب والقوى الوطنية وتحقيق العدالة الاجتماعية للسوريين، سيساهم في حلحلة الأزمة الناشئة ، وعلى الرغم من أن الدستور الجديد حافظ جزئيا على كل ماهو ايجابي في الدستور الحالي ، وأضاف إيجابيات أكثر تأتي على رأسها قضية منح حق الإضراب عن العمل وهي قضية كانت غائبة كلياً في الدستور الحالي، كما نص على قضية هامة جداً وهي أن تتعهد الدولة في تحقيق حد من النمو وتحقيق العدالة الاجتماعية وأن يتوازى دخل المواطن مع الحد الضروري للمعيشة  والضمان الاجتماعي للعمال ،أضف إليها إقرار التعددية السياسية التي كانت مسجونة بموجب المادة الثامنة من الدستور الحالي .

إلا أنه وجدت فيه العديد من المطبات التي فيها محاباة للقوى الرجعية المتسترة بالإسلام على حساب علمانية الدولة التي لا يمكن لسورية أن تقوم إلا عليها ، بسبب تنوع طوائف ومذاهب ومكونات الشعب السوري، الذي يتكون من 23 طائفة و 5 قوميات  إضافة للقومية العربية ، في حين أن القوى التي تشكل الآن غالبية المجلس الوطني الذي يسعى للتدخل الخارجي، والتي لم تكن ترى بالمحتل العثماني شقيقا فقط بل واليا وخليفة للمؤمنين، وكان هذا المحتل السبب الرئيسي وربما الوحيد الذي أدى إلى تخلف بلادنا طيلة أربعة قرون من هذا الاحتلال البغيض، هاهي تسعى لعودة هذه الخلافة عبر تأسيس مجلسها في اسطنبول التركية ، وهي إلى الآن تكفر وتلعن الثورة العربية الكبرى التي أدت إلى تخلص العرب من الاحتلال العثماني، ولا شك أن المادة الثالثة من الدستور الجديد هي لب المشكلة، فهي اشترطت أن يكون دين رئيس الدولة الإسلام ،وصحيح أن هذه الصيغة تعني  ان الدولة لا دين لها، لكن شرط أن يكون رئيس الدولة مسلماً، يجعل من هذه المادة مادة لا تمت إلى الديمقراطية بصلة ، وهي التي يسعى السوريون اليوم كي تكون صفة ملازمة لسورية المقبلة، لأن الديمقراطية تتضمن بالضرورة، عنصر المساواة. وعلينا أن لا ننسى بأنه تاريخيا كان المسيحيون هم الأقدم في سورية ،وكانوا يشكلون الغالبية العظمى من الشعب السوري قبل مجيء الإسلام بقرون، وهم كانوا مع المسلمين من المدافعين الأشاوس عن تراب هذه الأرض ، وعلينا أن لا ننسى شجاعة عيسى العوام الذي كان الساعد الأيمن لصلاح الدين في مقاتلة الصليبيين وهو مسيحي ، وعلينا أن لا ننسى أيضا بطولة الشهيد ( جول جمال) في حرب السويس وكيف قام بعملية بطولية أدت إلى غرق البارجة الفرنسية جان دارك وهو مسيحي أيضا، وقد قدم المسيحيون مثل إخوتهم المسلمين الكثير من الشهداء،في الثورة السورية الكبرى وفي حرب فلسطين وحرب ال 1967 وحرب 1973 وما زالوا  ،فلماذا نحملهم ذنبا في أنهم خلقوا ليسوا مسلمين ، وبالتالي نمنع عنهم حق المساواة بالمواطنة بينهم وبين المسلمين في هذا الحق المشروع لهم ،لذلك فإن إعادة الأمور إلى نصابها وإعطاء كل ذي حق حقه ، يقتضي إلغاء هذا الشرط ليتساوى السوريون في الحقوق والواجبات . كما أخل هذا الشرط  أيضا بحقوق نصف المجتمع السوري ، عندما جاءت الصياغة بصيغة المذكر، وقد يقول قائل بأن الصيغة تجوز على الجنسين ، ولكن ماذا لو تمسك أعضاء المحكمة الدستورية العليا بهذه الصيغة ، وكانوا ملكيين أكثر من الملك،  إنه سؤال كان على الدستور أن يجيب عليه في متنه ولا يترك للاجتهادات والتأويلات التي يمكن أن تصدر من هنا وهناك وأظن أنها ستصدر حتما .

وتنص الفقرة الثانية  من هذه المادة على أن الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع، وعدم النص عن المصادر الأخرى يفهم منه أن الفقه الإسلامي هو المصدر الأول، وقد يفهمه الآخرون بأنه المصدر الوحيد، ومع موافقتنا على هذه الفقرة نسبيا ، يجب أن نبين أن الفقه الإسلامي بغناه وتنوعه حين وضعه الأولون من الفقهاء لعب دورا ايجابيا بل وتقدميا في حياة المسلمين  آنذاك ،وعلى الرغم من الاختلافات الحادة أحيانا بين هذه المذاهب على أساس الحديث النبوي القائل بأن « اختلاف أمتي رحمة»، ، إلا أن القانون لا يستطيع أن يأخذ بهذه الاختلافات كلها، بل باجتهاد واحد ويرفض الاجتهادات الأخرى، وهذه نقطة ضعف ،هذا من جهة  ،ومن جهة أخرى فإن الفقه الإسلامي وضع منذ ما يربو على 1200 سنة ، وأغلق بعده باب الاجتهاد ، بمعنى أن هذا الفقه لم يتطور منذ أن وضعه الأوائل، وعلى الرغم من هذه المدة الطويلة التي مرت على وضعه، وعلى الرغم من التطورات الاجتماعية  والسياسية والاقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية، الهائلة التي حدثت طيلة 1200 عام، فإن تطبيقه على السوريين سيجعل من حياة السوريين عسيرة جدا و« إن الله يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر »  كما « لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان» وكمثال لعسر تطبيق الفقه  قضية الفائدة  المصرفية  التي يأخذ بها القانون التجاري السوري وهي تعتبر من المحرمات في أغلب المذاهب الفقهية علما أن «الضرورات تبيح المحظورات » .

أما النقطة الثالثة التي فيها محاباة أيضا، المادة الثالثة والعشرون التي تنص على التالي  «توفر الدولة للمرأة جميع الفرص التي تتيح لها المساهمة الفعالة والكاملة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعمل على إزالة القيود التي تمنع تطورها ومشاركتها في بناء المجتمع»  ، وهذه المادة تتناسى نضال المرأة العربية عموما والسورية أيضا من أجل مساواتها بالرجل، وهي منقوصة في مجتمعنا السوري، و رغم المكاسب التي تحققت للمرأة ، لكن مازال أجرها أقل من الرجل للعمل المماثل وخصوصا في القطاع الخاص،  كما أن المرأة لا تستطيع منح الجنسية لأبنائها في حين أن الرجل يستطيع ذلك ،وعدم المساواة هذه هي نظرة من بقايا النظام  الإقطاعي الذي زال من الموجود لكن بقاياه الفكرية التي منها أفضلية الرجل على المرأة ما زالت باقية إلى الآن ،  وقد لعب دورا أساسيا في هذه النظرة عقلية الرجل الشرقي الذي تمكن بسببها من تجيير النظرة الإسلامية تجاه المرأة، والتي أعلت من شأنها وساوتها بالرجل « لا فضل  لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى » و« الناس متساوون كأسنان المشط »، لكنه فسر التعاليم الإسلامية وأوّلها حسب عرفه وعاداته وميوله الشرقية، أضف إلى ذلك ان فقهاء المسلمين قصروا ولم يطبقوا النصوص القرآنية بما تتلاءم وروح النص ومقاصد الشريعة،  لذلك كان من الضروري أن يرد في الدستور نص واضح وصريح على المساواة ،بحيث تعدل المادة وتصبح كالتالي «  تعمل الدولة على تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة وتوفر لها جميع الفرص التي تتيح لها المساهمة الفعالة والكاملة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعمل على إزالة القيود التي تمنع تطورها ومشاركتها في بناء المجتمع »   وأخيرا نقول أن المجتمع السوري بكل مذاهبه وقومياته بصرف النظر عن ميولهم وانتماءاتهم يحتاج إلى دستور يؤمن المساواة للمواطنين على مبدأ سيادة القانون بحيث لا يوجد أحد فوقه بل الجميع تحت مظلته وباعتبار أن الدستور لم يقر حتى الآن فإننا نرى ضرورة حتمية بأن تؤخذ هذه الملاحظات بعين الاعتبار وعلينا الابتعاد عن محاباة البعض لأن الدين لله والوطن للجميع .

معلومات إضافية

العدد رقم:
541
آخر تعديل على الإثنين, 19 كانون1/ديسمبر 2016 03:21