حول الحركة السياسية السورية

■ الاستبداد هو الشرط الذي لاغنى عنه لاستمرار النهب في رأسمالية الأطراف

يقول أحد الفلاسفة: (إذا وقعت واقعة كبرى لا تضحك، لا تبك، بل فكر)!.. وأي شيء أكبر وأخطر من أن تعيش في جغرافيا هي قاب قوسين أو أد نى من الاستباحة من قبل اعتى قوة عسكرية في العالم الراهن بالتوازي مع لهاث يومي من أجل لقمة عيش كريمة وخوف من أناس من المفترض أن مهمتهم الأساسية توفير الأمن لك...

حقا إن الأمر يستدعي التفكير العميق طالما أننا أمام وقائع كبرى مرشحة كل يوم لكي تطيح بهذا الحّيز المكاني الذي يسمى بالوطن - بما فيه من بقايا الثروة والثقافة والبشر والجغرافيا - وإعادة صياغة منظومة الوعي الاجتماعي بما تكون قابلة للتوليف مع الاستباحة الأمريكية القادمة أيا كان الشكل الذي ستأخذه..

أمام واقع كهذا من الطبيعي أن تتجه الأنظار إلى الحركة السياسية التي يفترض بأنها وسيلة للتغيير وفتح آفاق جديدة كلما تعقد الوضع كما هو الآن.

وبغضّ النظر عن العديد من الأمراض البنيوية التي تعاني منها الحركة السياسية في البلاد والتي تعجز أغلب مخابر التحليل السياسي والنفسي عن تشخيصها، فان الخطيئة الكبرى التي ظلت تلازم هذه الحركة منذ عقود هي القراءة الأحادية الجانب لجملة المهام التي تنتصب أمامها عبر عملية فصل مصطنعة وغير واقعية بين هذه المهام.

ولان الواقع السوري مركّب فان المهام بدورها تصبح مركبة، ونقصد بالمركب إن المهام تتداخل وتتشابك بحيث إن أي محاولة للفصل بينها أو تجاهل إحداها إنما يعني عمليا نسف الأخرى، فهل يمكن مثلا تجاهل القضية الوطنية في بلادنا وثمة أراض محتلة وعدو ذو نزعة توسعية واضحة ناهيك عن التهديدات الأمريكية اليومية في ظل الحرب المزعومة على الإرهاب؟.

وبالمقابل هل يمكن مقاومة هذه التهديدات دون أرقى شكل للوحدة الوطنية في ظل الاختلال الهائل في موازين القوى؟ وهل يمكن توفر وحدة وطنية في ظل قانون الطوارىء والأحكام العرفية، واستمرار التمييز بين المواطنين على أساس قومي أوديني، و هل يمكن تجاهل الاستقطاب الاجتماعي الحاد وتدهور المستوى المعيشي للمواطن السوري واللهاث اليومي وراء لقمة العيش وبالتالي هل يمكن تجاهل النهب المفضوح للاقتصاد الوطني ؟؟ وإذا كان الجواب بالنفي هل يمكن وضع حد لهذا ا لنهب في حالة غياب صحافة حرة وقانون أحزاب عصري وقمع الأشكال الاحتجاجية دفاعا عن الحقوق؟؟؟؟؟؟؟

ومن هنا ثمة مهام وطنية اقتصادية اجتماعية، لايمكن النضال لتنفيذها إلا على أساس ترابطها وتكاملها. القراءة الخاطئة تجلت في تقديم مهمة ما على جملة مهام أخرى. فدائما هناك ما يجب أن يخضع له كل شيء آخر لنرى بالنتيجة أننا نكاد نخسر كل شيء، وفي إطار هذه الرؤية يمكن ملاحظة نموذجين في راهن الحركة السياسية السورية..

النموذج الأول: يمكن إدراج مجموعة أحزاب الجبهة الوطنية مع تمايز بسيط إذ تنطلق هذه الأحزاب من أولوية القضية الوطنية والقضايا القومية الكبرى واعتبارها الحلقة الرئيسية التي يجب أن تخضع لها القضايا الأخرى..

وأعتقد إن هذا الخلل نتج تاريخيا على أرضية وهم نظري عملت بموجبه مختلف قوى حركة التحرر العربية التي اعتبرت جزءا من الحركة الثورية العالمية، وبما أن هذه الأخيرة وطليعتها الاتحاد السوفيتي هي القاطرة التي تجر عربات الأطراف باتجاه الاشتراكية، فلا بأس من ديمقراطية ناقصة هنا أو هناك ولا بأس ببعض المشاكل في الوضع الاقتصادي. المهم أن لاتكون هذه البلدان مناطق نفوذ إمبريالية باعتبارها العدو رقم واحد، ومن هنا انصب الاهتمام على (مقاومة) الإمبريالية ووضع المهام الأخرى (الديمقراطية، الوضع الاقتصادي الاجتماعي) في المرتبة الثانية أو الثالثة من الاهتمام أو الاكتفاء بالنضال من أجل هذه المهام من داخل الهياكل الرسمية الموجودة كمجلس الشعب، النقابات، الإدارة المحلية، و مع عجز هذه الهياكل عن ممارسة أي فعل حقيقي على الأرض في ظروف تعمق الأزمة الاقتصادية الاجتماعية فقدت الجماهير الثقة بها، وصولا إلى عدم الثقة بالأحزاب المكونة لها، ويمكنني القول إن مثل هذا المنطق شوه مفهوم الوطنية كما لم يشوهه شيء آخر، إذ تجلى للمواطن العادي أن الوطنية مقترنة بالفقر، والتضييق على الحريات الديمقراطية....

وإذا كان المستوى المعرفي الذي ساد في مرحلة الثنائية القطبية لدى مختلف قوى حركة التحرر يبرر بالمعنى التاريخي مثل هذا المنطق، فان كل مبررات استمراره سقطت بعد التغيير البنيوي الهائل على المستوى العالمي اثر انهيار الاتحاد السوفييتي الذي لم يعد موجودا وبالتالي من لعب دور اللاجم للوحش الإمبريالي مرارا غاب عن الساحة، ومن كان الرهان عليه لمساعدة بلاد كبلادنا بإنجاز ماسمي في حينه بمهام مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية أزيل عن الوجود.

من هنا كان من الضروري إجراء مراجعة تاريخية تأخذ الظرف الجديد بعين الاعتبار، ولكن مع الأسف جميع قوى هذا التيار تبدو في حالة سبات شتوي وما زالت تجتر خطاب مرحلة الانتصارات الوهمية، دون أن تتفهم ضرورات الواقع الجديد، ليس باتجاه تجاهل القضية الوطنية، بل باتجاه تجذيرها.

النموذج الثاني: في الحركة السياسية السورية ويندرج في إطاره معظم ما يسمى بقوى المعارضة السورية التي ترى الأولوية لقضية الديمقراطية لدرجة يظن المرء إنها أصبحت صنما للعبادة لديهم، أما المهام الأخرى (الوطنية و الاقتصادية الاجتماعية) في الدرجة الثانية من الاهتمام أيضا مع بعض التمايز بين هذا الحزب وذاك، وإذا كانت هذه الرؤية نتاج فهم مختلف لمشاكل البلاد عن فهم أحزاب النموذج الأول، فانه أيضا ظل أسير النزعة الأحادية الجانب والفصل الميكانيكي بين المهام وعانى تاريخيا من الخلل ذاته الذي عانت منه أحزاب النموذج الأول، وبقي في إطار النخب الثقافية و لم يتحول إلى قوة مادية قادرة على تغيير شيئ، وإذا كان يسجل لأحزاب هذا النموذج وعي مبكر نسبيا لمسألة الديمقراطية لا يستطيع أي إنسان موضوعي إلا أن يقف أمام تضحياتها في هذا المجال إلا بالاحترام سواء اتفق معها في الموقف أو اختلف، إلا إن ذلك الوعي منذ البداية رافقه ومازال يرافقه تخلف في فهم المحتوى الاجتماعي للديمقراطية، وبالتالي علاقتها الجدلية مع المسالة الوطنية، إذ قزمت الديمقراطية إلى مجرد حريات سياسية وهذا ما أنتج موقفاً مشوشا من قبلها تجاه قوى النهب الكبرى ممن هم خارج دائرة جهاز الدولة ومشاريعها الاقتصادية، لابل إن البعض من هذه القوى يراهن على الليبرالية الاقتصادية وحاملها الاجتماعي، ويرى فيها معادلا موضوعيا للديمقراطية السياسية تشبها بالديمقراطية السياسية في الغرب الرأسمالي ناسين أو متناسين أن الحامل الاجتماعي هنا ليس البرجوازية المنتجة كما في أوربا التي استطاعت الإمساك بمفاصل الدولة بعد دورات متتالية من العنف وبعد تراكم هائل للثروة على خلفية ا لنهب المستمر لبلدان الأطراف، بحيث أصبحت قادرة على رشوة قطاعات جماهيرية واسعة من شعوبها حتى وصلت إلى مرحلة القدرة على إدارة النهب بالترافق مع الحريات المد نية بل هنا هو الكومبرادور وحليفه البيروقراط هذا الثنائي الذي يعتبر المنتج الأساسي للفساد والاستبداد، إن مأساة أصحاب هذا الموقف تكمن في إن الليبرالية الاقتصادية في بلادنا في الظرف الراهن تعني في جانب هام منها قوننة النهب، وهذه الأخيرة ما هي إلا غسيل لرؤوس الأموال المشبوهة التي تراكمت عبر عقود نتيجة النهب بشكليه المكشوف والمستتر سواء كان من قبل كبار التجار أو شركائهم في جهاز الدولة، الأمر الذي يعني إعادة إنتاج النهب بطراز جديد مما يتطلب استبدادا (جديدا) فالاستبداد هو الشرط الذي لاغنى عنه لاستمرار النهب في رأسمالية الأطراف، لان برجوازية الأطراف ليست بالمستوى الذي يؤهلها أن تمنح الحريات السياسية بالترافق مع النهب، فهذه البرجوازية لا تستطيع توطيد سلطتها إلا بالقمع، لامن حيث تجذرها في الواقع الموضوعي، ولا من حيث تكوّنها ونشوؤها إذ أن قطاعا هاما من هذه البرجوازية خرج بعمليات قيصرية من رحم جهاز الدولة، واغتنى من خلال موقعه في هذا الجهاز، وتشرب بعقليته البيروقراطية التي لا تستطيع تفهم الديمقراطية فكرا وممارسة، وما عدا ذلك هي بالضد من المصالح الوطنية بحكم اندماج مصالحها مع مصالح الاحتكارات الدولية، وهذه الأخيرة تتناقض مصالحها موضوعيا مع مصلحة شعوب الأطراف بالمعنى الاستراتيجي، ومن هنا يمكن القول إن الكثير من تضحيات قوى المعارضة الشريفة ووزنها المعنوي يمكن أن توّظف باتجاه لا يخدم القضية الوطنية بأفقها الديمقراطي ولا القضية الديمقراطية بأفقها الوطني.

بقي أن نقول إن القوى المتضررة من الواقع الاقتصادي الاجتماعي ومستوى الديمقراطية في البلاد، والتهديدات الخارجية هي الأغلبية الساحقة من المجتمع السوري، وتتوزع بين جميع التيارات السياسية في البلاد،- باستثناء الديكة التي لا تجيد الصياح إلا على مزبلة الخارج – تلك التيارات تمتلك طاقات وطنية كبرى هشمت وهمشت ترغيبا أو ترهيبا خلال عقود من الزمن، ولديها كل المقومات لتعود إلى الحلبة وتفعّل دورها ضد أعداء الداخل والخارج، وهذه ضرورة وطنية واجتماعية وديمقراطية وحتى أخلاقية، فثمة واقع جديد عالميا وإقليميا ومحليا، ويتطلب فهما متطورا، وأساليب جديدة في المواجهة، انه امتحان أمام رجال هذا الوطن فهل سننجح في الامتحان؟!. .

 

■ عصام حوج

معلومات إضافية

العدد رقم:
229