التعددية السياسية.. كيف تعبِّر عن تغيير حقيقي؟

‹‹إننا نمر بمرحلة ثورة وطنية ديمقراطية معاصرة تندمج فيها المهام الاجتماعية الجذرية اندماجاً وثيقاً مع المهام الوطنية العامة ومع المهام الديمقراطية. وهذا يؤكد أن فضاءً سياسياً جديداً يولد وآخر يموت، فالجماهير كانت ولا تزال هي القوة المحركة لكل الانتفاضات في التاريخ، والمعركة في النهاية هي ضد الامبريالية والصهيونية وضد الطبقات الحاملة لبرامجها الاقتصادية والاجتماعية في بلدان الأطراف.››
هذا التوصيف للمرحلة التاريخية الانعطافية التي يمر بها العالم ومن ضمنه بلدنا سورية ورد في البلاغ الصادر عن اجتماع مجلس اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين (حزب الإرادة الشعبية) بتاريخ 25 شباط 2011, ونذكّر به الآن لأنه ما يزال صحيحاً, حتى بعد عام من الأزمة.
وعندما يتوصل التحليل العلمي إلى أنّ طبيعة الأزمة الثورية التي يمرّ بها العالم اليوم هي ذات جذر اقتصادي في جوهرها يتعلق باستنفاد النموذج الرأسمالي لإمكانية استمراره, بما يعني انسداد الأفق التاريخي أمامه, لمصلحة انفتاح الأفق أمام الشعوب, فإنّ هذا يعني أيضاً أنّ الأشكال السياسية القائمة تمر أيضاً في أزمة, إذا تذكرنا أنّ السياسة بالتعريف الماركسي ما هي إلا تكثيف لعلاقات الإنتاج الاقتصادية.

ولما كانت خصوصية طبيعة المهام المنتصبة أمام النشاط الشعبي والسياسي العالي في بلدنا ذات طبيعة مركبة تندمج فيها المهام الاقتصادية-الاجتماعية مع المهام الوطنية والديمقراطية, فإنّه يتعذر إنجاز أيّ جزء من هذه المهام بمعزل عن إحراز تقدم كافٍ في إنجاز المهام الأخرى.
 
المهام الديمقراطية:
يقود الحديث عن ‹‹الديمقراطية›› في الخطاب السياسي الدارج إلى مقولة ‹‹التعددية السياسية››. لكن المسألة التي سنحاول مناقشتها هنا هي: أيّ تعددية سياسية نريد في سورية, كشكل للمضمون الديمقراطي المطلوب؟
تعلمنا التجربة التاريخية لسورية منذ سبعينيات القرن الماضي أنّ ‹‹التعددية السياسية›› الشكلية التي كانت قائمة, والمتمثلة بالجبهة الوطنية التقدمية, لم تكن في الحقيقة سوى أحادية سياسية لحزب البعث الحاكم, تمّ ترسيخها في المادة الثامنة من الدستور القديم. وبسبب عدم فعالية مكوناتها السياسية بما فيها الحزب الحاكم نفسه, لم تستطع تلك الجبهة الأحادية أن تنقل صراع المصالح الاجتماعية الجاري على الأرض إلى المستوى السياسي, وبقيت في عزلة عن الجماهير وبالتالي ظلت عبارة عن تعددية كمية شكلية, لا تحمل ثقلاً نوعياً.
تلك الأحادية أثبتت فشلها في حل مشكلات الجماهير, ما أدى إلى تراكمها وصولاً إلى اندلاع الحراك الشعبي, الذي حقق أول انجازاته السياسية, بوضع دستور جديد للبلاد, ومادة ثامنة جديدة تقرّ بالتعددية السياسية. لكنّ التحديات الديمقراطية أمام الجماهير والقوى السياسية اليوم تتعلق بتفعيل هذه المادة, وبمضمون هذه التعددية السياسية.
 
التعددية السياسية ومكونات المجتمع:
نجد في جوارنا الإقليمي (لبنان والعراق المحتل) أمثلة سيئة عن التعددية السياسية الناشئة بعد الحروب الأهلية وفي ظلّ الاحتلال. وهي تعبر عن ما يسمى ‹‹الديمقراطية التوافقية›› أو ديمقراطية تمثيل مكونات ما قبل الدولة الوطنية, من إثنية ودينية ومذهبية وعشائرية..إلخ, وهي على هذا النحو تعزز فرز المجتمع على أساس هذه الانتماءات الثانوية الضيقة, على حساب الانتماء الوطني الجامع من جهة, وعلى حساب الفرز البنّاء على أساس صراع المصالح الطبقية المتناقضة من جهة أخرى.
هذه الحالة ‹‹الديمقراطية›› تعتبر مثالية للتمرير المريح للمصالح الاستغلالية للبرجوازيات الكبرى المحلية, وعلاقاتها المشبوهة, سواءً في الداخل, أو عالمياً مع المصالح الإمبريالية والصهيونية. ولهذا السبب بالذات نجد أنّ هذا الشكل يلقى كلّ التشجيع والدعم من جانب القوى الإمبريالية والصهيونية وأدواتها, ويفسر هدف ركوبها موجة الانتفاضات العربية ومحاولاتها المستميتة في حرفها عن مساراتها, والسعي نحو تنصيب المعارضات اللاوطنية المرتبطة بها في سدة الحكم مكان الأنظمة القائمة, بحيث تقيم الأشكال السياسية الرجعية التي تناسبها كما يحدث في مصر اليوم, أو تعمل على إدماء وتدمير وتشتيت الشعوب تحت ذريعة ‹‹حمايتها›› كما فعلت في ليبيا, وكما تحاول أن تفعل في سورية.
إذا كانت هذه نماذج التعددية السياسية الهدامة. فما هو النموذج السياسي الديمقراطي التعددي البنّاء والجدير بالشعب السوري, وبتضحياته الحالية والتاريخية, والضامن لمصالحه الجذرية الحقيقية؟
أعتقد أنّ نقد النماذج المذكورة سابقاً يوضح لنا الشكل الذي نقصده ونريده, والذي يبدأ ببلورة أحزاب سياسية ذات تمثيل حقيقي للمكونات السياسية للمجتمع السوري, أي لطبقات هذا المجتمع وشرائحه الاجتماعية المختلفة (عمال وفلاحين, وشرائح متوسطة, وبرجوازية كبيرة), وليس لمكونات ما قبل الدولة الوطنية.
رغم أنّ أكثر من مادة في الدستور الجديد, وفي قانون الأحزاب تراعي هذا النوع من التعددية, إلا أنّها بحاجة إلى أدوات عملية, وتجارب سياسية لتحقيقها على أرض الواقع. وربما تكون انتخابات مجلس الشعب الوشيكة إحدى هذه التجارب, رغم أنّ كثيرين مايزالون يتعاملون بروح الدستور القديم والمادة الثامنة القديمة, لكن قانون التاريخ هو التغيير والتجديد, وستمضي عجلته لتطحن من لا يمشي مع قوانينه, وتفسح المجال لمن يحترمها ويحترم صانعها, وصانع عجلة التاريخ هي الشعوب, فالنصر لمن يحترمها ويحقق مصالحها, والهزيمة لمن يزدريها, أو يتجاهلها أو يخونها!