«قاسيون» في لقاء مع ممثل الشيوعيين المصريين: النخب المصرية تحوِّل الوطن إلى كعكة!

■ أي تراجع في الأداء الاقتصادي وفي التنمية يؤثر على مستوى معيشة الجماهير، ويهدد أمنها القومي

■ الخصخصة في مصر..  تدمير لمنجزات اقتصادية هائلة.

■ خمسة ملايين خريج لم يدخلوا في علاقات عمل!

■ التعددية السياسية المنقوصة اتسعت لتصل إلى 17 حزباً مسجلاً ليس من بينها حزب واحد يعبر عن مصالح الطبقة العاملة.

■ على عاتق الشيوعيين استحقاقات هائلة لصد الوحش الإمبريالي وإسقاط الرأسمالية.

■ المتمسكون بالشيوعية مطالبون بأن يعملوا على استعادة الدور الوظيفي لأحزابهم.

■ المقاومة العراقية والفلسطينية تذود عن البشرية بأسرها.

لعبت مصر طوال الخمسينات والستينات من القرن الفائت دوراً هاماً وريادياً في حركة التحرر الوطني العربية، وعلى المستوى الإقليمي والدولي.. ونتيجة السياسات التي اتبعت منذ أوائل السبعينات.. أصبحت مصر مختبراً لتمرير سياسات الدوائر الامبريالية ـ الصهيونية ووصفات مؤسساتهما المالية لتعميمها على بلدان المنطقة بعد نسف البنى الحاملة للمشروع الوطني..

من هنا كانت أهمية الحوار مع الشخصية الشيوعية المصرية المرموقة الرفيق ابراهيم بدراوي، ممثل الشيوعيين المصريين، حيث اغتنمت «قاسيون» فرصة وجوده في دمشق، وأجرت معه اللقاء التالي:

● كيف تنظرون لمجمل التطور الاقتصادي المصري في علاقته بمفهوم الأمن القومي؟!

●● هناك تعريفان للأمن القومي: الأمن القومي بالمعنى الضيق وهو المتعلق بالحماية العسكرية والأمنية، ولكن هذا التعريف قاصر عن تلبية مفهوم الأمن القومي خصوصاً في الظرف الراهن. فالأمن القومي يمتد إلى مختلف مناحي الحياة، ومن الممكن اختراقه وتهديده بآلاف الوسائل والأساليب كالفن والثقافة والإعلام وتغيير القيم والأخلاق…إلخ

وبناء على هذا فإن الأوضاع الاقتصادية ـ الاجتماعية  أصبحت تمثل الجزء الهام من جسد الأمن القومي. بمعنى أن أي تراجع في الأداء الاقتصادي أو في التنمية يؤثر على مستوى معيشة الجماهير ويؤدي إلى إضعاف أي بلد، أي يهدد أمنها القومي.

ومن هنا فإن التنمية الشاملة التي لا تتحقق في بلدان مثل بلداننا دون دور حاسم للدولة وبتدخل مباشر منها، هو من صميم الحفاظ على أمنها القومي.

وبشكل آخر، فإن القروض الأجنبية غير المبررة والتي تستخدمها بعض البلدان عوضاً عن حشد الطاقات الوطنية والمدخرات الوطنية لإنجاز التنمية فإنها، أي القروض، تعتبر وسائل ضغط للتنازل عن الأهداف الوطنية وقبول سياسات لا تخدم مصالح الجماهير والوطن، إنما تضرها، وبالتالي فإنها تدمر وتهدد بشكل مباشر الأمن القومي للبلد المعني.

وغني عن البيان أنه قد انتهى وولى إلى الأبد عصر إمكانية تنمية رأسمالية في مثل بلداننا باعتبار أن الرأسمالية في الأساس اعتمدت على نموها بأبشع صور الاستغلال الداخلي والاستنزاف الاستعماري والوحشي لثروات شعوب أخرى، وهذا أسلوب لم يعد بالمستطاع أتباعه. فنحن الآن في المرحلة العليا من الإمبريالية والعولمة الرأسمالية التي تهيمن فيها الاحتكارات قليلة العدد العابرة للقوميات على معظم اقتصاديات العالم، ولم يعد لنا مكان ولا إمكانية للتنمية بالأسلوب الرأسمالي خصوصاً في ظل ضعف وطفيلية وتهافت وضيق أفق البرجوازية المحلية.

ومن هذا الواقع الموضوعي، فإن التطور الاقتصادي المستقل أو شبه المستقل، والحرص على الاستمرار والدفع بدور أساسي للدولة وتطوير الأداء الاقتصادي تطويراً جذرياً، والعمل على أن تكون ملكية الاقتصاد ملكية شعبية حقاً، أي تقليص نفوذ الجهاز البيروقراطي والبرجوازية البيروقراطية على الاقتصاد وعلى الملكية العامة للشعب واستنزافها للثروات الوطنية، أي أن تكون الملكية العامة ملكية شعبية حقاً وحشد كافة الطاقات على طريق التطور الاقتصادي والاجتماعي المستقل والرامي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الفائض توزيعاً عادلاً على الشعب، هو الطريق إلى حماية الأمن القومي، إذ أن تراجع العدالة الاجتماعية وهيمنة الرأسماليين بشرائحهم المختلفة يفتح الباب واسعاً أمام الهيمنة الفعلية للاحتكارات على الثروات الوطنية، وهو ما يؤدي إلى تنفيذ المشروع الإمبريالي الصهيوني للهيمنة على بلداننا بما يعني تدمير كل شيء من الاقتصاد حتى الهوية.

● في خطوات متتالية.. تتخلى الدولة عن دورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية باتجاه الخصخصة، مما يفاقم المشكلات الاجتماعية ويزيد من البطالة ويهدر الثروة البشرية.. كيف تقرؤون ذلك؟ 

●● من يقرأ تاريخ مصر ويمعن النظر فيه، يتبين له أن الأمة المصرية تشكلت منذ سبعة آلاف عام، (وقبل أن تصبح جزءاً من الأمة العربية منذ آلاف السنين) تجاوزت مرحلة دولة المدينة ومرحلة دولة الإقليم عن طريق طور أساسي وواسع للدولة المركزية في الشأن الاقتصادي والاجتماعي. أي أن دولة مركزية قوية، ودور كبير للدولة في الشأن الاقتصادي ـ الاجتماعي كانت الأساس في قيام الحضارة المصرية منذ سبعة آلاف عام وفي تشكل شعب متجانس موحد.

وبالتالي فإن انحسار دور الدولة أو زواله يهدد وحدتها، وبالتالي أمنها القومي. وهناك أمثلة تاريخية على ذلك لا مجال للكلام عنها الآن.

ومن هذه النقطة نستطيع أن نفهم النتائج الوخيمة والمدمرة لسياسات انحسار دور الدولة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والذي تجلى في الخصخصة التي هي بمثابة تدمير لمنجزات اقتصادية هائلة أعطت لمصر طوال الخمسينات والستينات دوراً قيادياً إقليمياً وعالمياً، وأدخلت تعديلات هائلة على ميزان القوى المحلي والإقليمي والدولي، كما أدت إلى تغييرات عميقة الأثر على حياة العمال وفقراء الفلاحين والمثقفين وأنتجت تطوراً هائلاً في الصناعة والزراعة والعلم والأدب والفن..الخ.

وبالتالي فإن العدول عن خط التنمية المستقلة الذي كان يجب أن يتعمق أكثر فأكثر ويكتسب طابعاً تقدمياً وشعبياً أكثر فأكثر، هذا العدول الذي أسلمنا في النهاية إلى التبعية وتقويض الدور المصري والتراجع الهائل في مستويات معيشة الجماهير الشعبية وتصفية الصناعة الوطنية…إلخ. قد أنتجت وأعادت إنتاج  أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة، وهو ما نطلق عليه: أزمة اجتماعية شاملة. كان من مفرداتها البطالة الواسعة التي تعني حرمان البلاد من أهم مصدر لقوتها وهو قوتها البشرية ويتجلى ذلك بشكل شديد الوضوح في البطالة الواسعة التي تتغذى أساساً من رافدين:

أولهما: تصفية الكثير من وحدات القطاع العام التي تمت خصخصتها وتسريح عمالها وهم عمال على درجة كبيرة من الخبرة والكفاءة حرم منهم الاقتصاد الوطني.

وثاني الرافدين، وهو الأوسع والأكبر: خريجو الجامعات والمعاهد والمدارس المتوسطة الذين لم يدخلوا أساساً في علاقات عمل، والذين يبلغ تعدادهم ما يقرب من خمسة ملايين، وحرم الاقتصاد الوطني والمجتمع بشكل عام من هذه الطاقات الهائلة في مختلف التخصصات، وعلى سبيل المثال فإن دولة مثل مصر يتطلع شعبها إلى التطور والتقدم لأنه يعرف أنه يمتلك إمكانيات هذا التطور والتقدم. يبلغ عدد المهندسين العاطلين، وهم أحد أهم ركائز التنمية على مايزيد عن الـ140 ألف مهندس في حين كان خريجو كلية الهندسة في الستينات يطبق عليهم التكليف بالعمل لمدة لاتقل عن خمس سنوات، أي أن الاقتصاد المصري كان يستوعب كل المهندسين، وهذا نموذج خطير يبين مأساوية مسألة البطالة في مصر، وقد أدى ذلك إلى عدم تمكن الشباب من الزواج، إذ يبلغ حسب الإحصائيات عدد الفتيات اللاتي تجاوزن الثلاثين عاماً، خمسة ملايين فتاة، مما أدى إلى انخفاض معدلات نمو الزيادة السكانية التي يدّعي المسؤولون أنها تلتهم عوائد التنمية حيث وصلت في العام الماضي إلى 6.1 أي أنها تصل إلى نصف معدل الزيادة مثل ماليزيا وهي بلد حققت نمواً اقتصادياً مرتفعاً، ولم تخضع لضغوطات المؤسسات المالية الإمبريالية، كما حدث في مصر. كما أن هذه النسبة تعادل نصف نسبة الزيادة السكانية في مرحلة الستينيات وهي مرحلة بلغ النمو الاقتصادي فيها نسبة 5.7 % في المتوسط في حين أنه الآن لا يتجاوز الـ2% حسب الأرقام الرسمية المعلنة.

وبذلك يتبين نتيجة المأساة الناتجة عن حرمان البلاد من طاقات معطلة هائلة كافية لبناء بلدان أخرى حيث أن الثروة الحقيقية في مصر والأساسية في مصر تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً هي الثروة البشرية.

إن هذه البطالة الواسعة لا يقتصر ضررها الفادح على حرمان البلاد من طاقاته البشرية التي تمثل ثروته الهائلة الحقيقية فحسب، وإنما تمثل هذه البطالة في ظروف الاحتقان الاجتماعي العميق الناتج عن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والهائلة قنبلة موقوتة ومدمرة، خصوصاً في ظل أزمة النخبة المصرية التي وصلت إلى حد الإفلاس وعجزها عن التواصل مع الجماهير والتجاوب مع مصالحها اكتفاء بالمطالب المتهالكة والسقيمة عن الإصلاح السياسي والديمقراطي والدستوري وحقوق الإنسان فقط دون ربطه بالمصالح الاقتصادية والاجتماعية للجماهير، أي العمل موضوعياً على أرضية (مبادرة باول) وهو ما يعني سعي هذه النخبة المتمثلة في الأحزاب الشرعية على نصيب أكبر في الكعكة (فالوطن تحول إلى كعكة) دون النظر إلى مصالح الوطن.

● في الوقت الذي تنادي به بعض القوى والأحزاب بضرورة عودتها إلى الشارع.. تبين الوقائع والأحداث أن هناك بوناً شاسعاً بين الحركة الشعبية العفوية ومجمل الحركات السياسية.. كيف تتجلى هذه المعادلة عندكم؟  

●● بإطلالة سريعة على الواقع السياسي في مصر فإننا نجد، كما أسلفت، أن التعددية السياسية المنقوصة، والتي اتسعت لتصل إلى 17 حزباً ليس من بينها حسب نص القانون، حزب واحد يعبر عن مصالح الطبقة العاملة. إذ أن القانون ينص على عدم السماح بإقامة أحزاب على أساس طبقي أو ديني. ولذلك فإن الغالبية الساحقة من هذه الأحزاب لاتزيد عن مجرد شقة بدون عضوية ملموسة، وحتى بدون أداء إعلامي. فالمشاركة السياسية في مصر في الظروف الراهنة ضعيفة للغاية نتيجة عدم قدرة النخبة على التواصل مع الجماهير وعدم ثقة الجماهير في هذه النخبة، بسبب أن الجماهير تستشعر أن هذه النخب لا تعبر عن مصالحها.

ولذلك فإن القضية ليست مجرد تعددية وليست مجرد إصلاح سياسي ودستوري، وإنما هي أعمق من ذلك بكثير، إذ أنه مالم يتم العدول عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة، أو على الأقل مالم يتم تفهم الأحزاب لأساس انفضاض الجماهير عنها نظراً لانشغال هذه الأحزاب بالإصلاح السياسي والدستوري وحقوق الإنسان، فقط دون ربط تلك الأمور بمصالح الجماهير الشعبية ومكتسباتها التي تم كنسها عن آخرها نتيجة لتطبيق السياسات الراهنة. فأول حق من حقوق الإنسان هو حق الحياة وليس مجرد مفردات أرستها المؤسسات الإمبريالية التي تتبنى من يسمونهم بمؤسسات المجتمع المدني، والتي يلعب التمويل الأجنبي وأجندته الأمريكية الصهيونية الدور الأساسي في ممارسات هذه الجمعيات التي تدعي تبنيها لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والاكتفاء بقضايا جزئية غريبة عن المجتمع المصري.

والغريب في الأمر أن ما يسمى بحركة إصلاح سياسي وديمقراطي ودستوري، وعلى رأسها ما يسمى بحقوق الإنسان، تسعى إلى تغيير الدستور المصري الصادر عام 1971 والتي تنص غالبية مواده على تكريس العدالة الاجتماعية بغض النظر عن ممارسات السلطة القائمة، بما يعني العمل على صياغة دستور جديد يستهدف إرساء شرعية دستورية للواقع المرير الراهن.

ولذلك فإنه في الوقت الذي اضمحلت فيه بشكل غير مسبوق الحركة السياسية المعبرة عن النخب الحاكمة والمعارضة على السواء، والتي أفلست تماماً لرفض الجماهير لها وعدم قدرتها وعدم رغبتها أيضاً في التواصل مع هذه الجماهير والتعبير عن مصالحها، قد أدى الانفصال إلى عزلة خانقة لهذه النخب في الوقت الذي يتعمق فيه الاحتقان الاجتماعي والتحركات المستقلة للقوى الشعبية، وإن كان الخطر يكمن في عفوية هذه التحركات، الدليل الصارم على ذلك أنه في الوقت الذي تكرس فيه هذه الأحزاب كل جهدها لحشد جماهيري في مظاهرات تضامن سواء مع انتفاضة الشعب الفلسطيني أو مع المقاومة العراقية فإن قدرة هذه الأحزاب لا تسفر عن حشود تزيد عن الـ500 شخص في مدينة كالقاهرة يسكنها 20 مليون من البشر. وذلك يعني عدم استجابة الجماهير لدعوات الأحزاب للمشاركة والنشر عن هذه المظاهرات في صحفها، في حين أنه في اليوم التالي للعدوان على الشعب العراقي الشقيق احتشد أكثر من 20000 شخص في ميدان الشهيد عبد المنعم رياض في وسط القاهرة في مظاهرة لا مثيل لها تضامناً مع الشعب العراقي وضد الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وذلك بدون دعوة من هذه النخب السياسية المفلسة لها. أي أن الجماهير تحركت تلقائياً بمعزل عن هذه النخب. فالجماهير بحسها الوطني تدرك أن هذه النخب تبيع بضاعة غير مرغوب فيها، وليس لدى الجماهير نية ولا استعداد لإعطاء الأولوية لهذه البضاعة. فهناك المشروع الإمبريالي الصهيوني وهناك الأزمة الاقتصادية ـ الاجتماعية العميقة وهناك قضية الديمقراطية، وكلها تمثل منظومة واحدة إطارها هو الصراع العربي الإمبريالي الصهيوني والعملاء المحليون للإمبريالية والصهيونية.

فالديمقراطية، من وجهة نظر الجماهير وبوعيها العفوي، لا تنفصل عن مصالحها الاقتصادية الاجتماعية ولا تنفصل عن ضرورة مقاومة الهجمة الإمبريالية الصهيونية. وبالتالي فبضاعة الديمقراطية السياسية لا تتعاطى معها الجماهير لأنها تريد ديمقراطية شعبية تحقق العدالة الاجتماعية وتحمي الثروة الوطنية وتعيد توزيعها مرة أخرى لصالح الشعب.

وبهذه المناسبة فقد كان توزيع الفائض الاقتصادي في الستينات في ظل قيادة عبد الناصر بنسبة 65% للعمل و 35% لعوائد التملك. وكان يجري تعديل هذه النسبة لصالح الجماهير. وبصرف النظر عن أي انتقادات توجه لهذه التجربة فإنها كانت بمجملها تجربة منحازة للجماهير، كان ينبغي تطويرها وتعميقها، وألفت النظر هنا أنني أفصل بين عبد الناصر كقائد، ومجمل المؤسسة التي كان ينجز بواسطتها، فلقد كان يكرر علناً وباستمرار بأنه يبني الاشتراكية بدون اشتراكيين.

في حين أن نسبة توزيع الفائض الاقتصادي كانت منذ أكثر من عشر سنوات تحقق 65% لصالح عوائد التملك و35% لصالح العمل، فقد تفاقمت هذه المسألة خلال السنوات العشر الماضية إلى أبعد حد، أي أن ما يحصل عليه العمل أصبح ضئيلاً للغاية لما يتحقق للبرجوازية المصرية من نهب للثروات الوطنية رغم عجزها المطلق عن إحداث أي تقدم اقتصادي أو أي تنمية حقيقية.

● مع وجود حالة الاغتراب بين الحركة الشعبية والقوى السياسية وانتفاء دورها، كيف يمكن للشيوعيين المصريين واليسار المصري على العموم استعادة هذا الدور ضمن الخصوصية المصرية؟ 

●● في هذا الموضوع نحن وصلنا إلى استنتاجات متطابقة جداً مع استنتاجاتكم دون أن يكون هناك أي تنسيق مسبق.

ونرى أن الحركة الشيوعية قدمت، وببطولة فائقة، تضحيات ليس لها مثيل في التاريخ وسقط في معمعان النضال ملايين الشهداء من العمال الشيوعيين ومن المناضلين الشيوعيين ضد الإمبريالية والرجعية. لكن القضية، إذا كنا نبغي القيام بدورنا هو أنه علينا أن نمعن النظر في أسباب تراجع الدور الوظيفي للحركة الشيوعية ومن بينها أحزابنا، ذلك أن التحريفية التي بدأت بالمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي والتي أنهت 35 عاماً من النضال المجيد في بناء الاشتراكية والتي أسفرت عن دولة اشتراكية جبارة هي الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية، أوجدت للمرة الأولى في التاريخ توازناً ما بين قوى الاستغلال وبين المقهورين وعلى رأسهم الطبقة العاملة. إن انتهاء هذه الحقبة من المجد الشيوعي وولوج حقبة جديدة منذ اعتلى خروتشوف سدة القيادة وطمس كل المنجزات العظيمة على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية للحقبة السابقة وتسببه بالدرجة الأولى في انقسام الحركة الشيوعية واتباعه سياسات اقتصادية واجتماعية وسلوك سياسي لا مجال له للتوسع فيه فهو معروف، وقد أدى إلى أن جل الأحزاب الشيوعية قد سار في هذا الخط مما أدى إلى فقدانهم لدورهم الوظيفي، الأمر الذي أنتج الكارثة التي نعيشها الآن، من انهيارات شرق أوروبا، ثم الاتحاد السوفييتي في إثرها، وانفراد الإمبريالية الأمريكية بقيادة العالم وكل ذلك أدى إلى بروز وحشيتها، أي وحشية الليبرالية الجديدة بشكل لا سابق له وأصبحت خطراً على بقاء الجنس البشري، وهذا يضع على عاتق الشيوعيين استحقاقات هائلة لصد هذا الوحش وإسقاط الرأسمالية بشكل عام ليتمكن الجنس البشري من البقاء والتطور.

ولكن المسألة تحتاج إلى قدر من الإيضاح فظروف الأزمة قد أنتجت حالة من التفسخ في الحركة الشيوعية، ولكنها في ذات الوقت أدت ولازالت تؤدي إلى فرز عميق في صفوف الشيوعيين بين من يتمسكون بالشيوعية وبين من استدار إلى مواقع الليبرالية. وهذه العملية امتدت تقريباً إلى كافة الأحزاب الشيوعية في جميع البلدان.

من هنا فإن المتمسكين بالشيوعية مطالبون بأن يعملوا على استعادة الدور الوظيفي لأحزابهم.

بالنسبة للمنطقة العربية، فإننا نواجه مهمة مزدوجة أنتجها تكريس الكيان الصهيوني في فلسطين بما يجعل العمل أكثر مشقة وتضحيات أكثر اتساعاً ومطالب الإبداع الفكري والتنظيمي والسياسي والممارسي، مطالب حتمية لا غنى عنها لاستعادة دورنا. فالمشروع الإمبريالي الصهيوني الذي يمثله مشروع «الشرق الأوسط الجديد» يهدد شعوب المنطقة بالانقراض خصوصاً أن برنامج العولمة يستهدف التخلص من 80% من الجنس البشري. وأيضاً في ظروف تصعيد التحالف الأمريكي الإسرائيلي إلى مرحلة غير مسبوقة في السياسة الدولية هي مرحلة «الاندماج الاستراتيجي»، ويؤكد ذلك الواقع الملموس في التعاون في إنتاج الأسلحة فوق التقليدية التي مازالت محجوبة حتى عن الحلفاء الغربيين في الناتو والدور الإسرائيلي الاستخباراتي والاستطلاعي وخبرة حرب المدن التي قدمتها إسرائيل للولايات المتحدة في غزوها للعراق.

إلى جانب الأساس الموضوعي لهذا الاندماج الاستراتيجي الناتج عن النمو غير المسبوق للاقتصاد المالي (الطفيلي) على حساب الاقتصاد العيني (الصناعي والزراعي) والذي يصل فيه الأول إلى 30 ضعف الثاني حسب رأي الخبراء. وبما لرأس المال اليهودي الصهيوني من دور قيادي في الاقتصاد المالي الطفيلي الذي جعل الرأسمالية تصل إلى درجة عالية وغير مسبوقة من التطفل ودور الاقتصاد المالي الطفيلي يعتبر هو الدور القائد الآن في الاقتصاد الرأسمالي وبالتالي فإن ذلك يضع الأساس الموضوعي لهذا الاندماج الاستراتيجي لما لرأس المال الصهيوني المالي والطفيلي من ثقل في هذا الاقتصاد وفي ظروف قيادة الولايات المتحدة للمعسكر الإمبريالي.

هذه المسألة، مسألة الاندماج الاستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي تضع استحقاقات هائلة على الشيوعيين وعلى كل القوى المعادية للمشروع الإمبريالي الصهيوني في المنطقة، ويعتبر استعادة الدور الوظيفي للشيوعيين، أي عملهم بين الجماهير، خاصة جماهير الطبقة العاملة وكل العاملين بأجر الذين يدركون الخطر الهائل والقائم على وجودهم بما يساعد الشيوعيين وغيرهم من القوى الوطنية الصادقة على التواصل مع هذه الجماهير والعمل معها لاستعادة هذا الدور وبناء حركة تحرر وطني جديدة في المنطقة ككل يلعب فيها الشيوعيون دوراً متنامياً لصد وهزيمة هذا المشروع والانتقال من مرحلة الدفاع المتواضع الحالي إلى الدفاع النشيط الفعال، إلى الهجوم لتحقيق الانتصار.

وأستطيع أن أقول إن المقاومة العراقية والفلسطينية الآن تقوم بدور عظيم ليس دفاعاً عن العراق والشعوب الشقيقة في المنطقة فقط، وإنما، هي في واقع الأمر تذود عن البشرية بأسرها. وإذا ماعملنا بنقاء ثوري وبروح وطنية عالية وبإدراك عميق للمخاطر فإننا يمكن أن نصل إلى انتصار يمهد الطريق على الأقل للهزيمة النهائية للإمبريالية والصهيونية وللهيمنة الرأسمالية وللرأسمالية بشكل عام.

وليس من قبيل الصيغ الإنشائية أن نقول أننا بمقاومتنا وبالتحامنا مع مقاومة الشعب العراقي والفلسطيني وبعمل لايعرف الكلل وشديد التعقيد وتضحيات جسيمة يمكن أن نساعد على الأقل في حفر قبر الرأسمالية التي تهدد مصير البشرية جمعاء.

■ أجرى اللقاء: كمال مراد

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.