الثورة السورية الكبرى 1925 - 1927 .. بطولات سطرتها وحدة وطنية راسخة

حين نسمع أو نقرأ أخبار الأمم المقهورة والأوطان المستعمَرَة لا نستطيع أن نتجاهل نعمة الحرية والاستقلال التي تنعم فيها بلادنا. غير أن اغتباطنا بحريتنا وفرحتنا باستقلالنا ينبغي ألاَّ تجعلنا ننسى تضحيات أولئك العظماء من الرجال الذين حققوا لنا هاتيك الحرية وتلك الأمجاد.

ولكن، هيهات أن تبقى أمور الشعوب هكذا..! إذْ إنَّ سيرورة التاريخ المندفعة بقوانين الصراع، بالمغالبة المستمرة بين الأمم في شتى ميادين الحياة، لا تُبقي الكائن على ما كان! فالحياة في حِراك دائم والوَيْل والثبور للأمة التي تتوقف عن الحركة أو تتباطأ فيها، والأنكى، إذا ما انكفأت على نفسها لتكتفي بالتغنِّي بالأمجاد وبالأيام الخوالي ! غافلة عن حقيقة وهي أن الحفاظ على النصر لا يقلُّ أهميةُ عن الحصول عليه.

فها نحن اليوم نرى، وكأنَّ التاريخ يعيد نفسه، نرى الاستعمار الإمبريالي الأمريكي-الصهيوني يطمع في نهب خيرات وَطننا سورية العربية مثلما فعل الفرنسيون من قبله في الربع الأول من القرن العشرين، ويحاول الآن من أجل تحقيق مخططاته الاستعمارية هذه، استخدام الوسائل التي استخدمها سابقوه، بدءاً بمحاولته تمزيق الصف الوَطني الداخلي بإثارة النعرات الطائفية والقومية والمذهبية، مروراً بالتذرع بالشعارات (الإنسانية والخلقية والسياسية..) ووصولاً إلى تهديداته بالحصار الاقتصادي والسياسي بل بالعدوان العسكري المباشر. 

والعَجَب في أنَّ الأمريكيين والصهاينة لم يتَّعظوا بفشل اتباع مثل هذه الأساليب التي استخدمها الفرنسيون من قبلهم! حيث لم ولن ينطلي على شعبنا السوري خداع الذئاب المتوحشة، وإنه بات يُفرِّقُ جيداً بين تكشيرة الذئاب والابتسامة. ولكن في المقابل، فإن العَجَب كل العَجَب إذا ما تَوهَّم البعض بإمكانية استرضاء الاستعمار بدل الرهان على إرادة الجماهير الحرَّة، التي لم ولن تُغلب، في التصدي والدفاع عن أوطانها !. ولنا في نضال الآباء والأجداد ضد الاستعمار الفرنسي وانتصارهم على قواته الجرَّارة إبَّان الثورة السورية عام 1925 دروسٌ وعِبَر!. 

وإذا ما عدنا لقراءة أحداث الثورة السورية الكبرى فإننا نذكر بكل فخر واعتزاز مواقف التآخي والكفاح المشترك في سبيل حرية الوطن واستقلاله. أجل، نذكرها دروساً ملهمة للمقاومة كلما طمع بسورية طامع. وأَعظِم بهم مواطنين شرفاء صادقين حينما ترفُّعوا عن كل ما يُفرِّق الصف الوطني ويمزق نسيج المجتمع ويمسُّ بمصلحة الوَطن. وللبيان إليكم هذه المواقف المشرفة على سبيل المثال: 

■ اشتراك جميع طبقات المجتمع: لقد جاد عدد من أبناء «الطبقات العليا» بأرواحهم في سبيل الوطن، وإنْ كانوا تراكضوا حين تحقق النصر لقطف ثماره مستفيدين من وضعهم الاجتماعي ومنزلتهم في المجتمع. أما أبناء «الطبقات الدنيا» من فلاحين فقراء وعامة، ومع إن الثورة لم تدعُ في الأساس، لإلغاء الاستثمار الإقطاعي أو لجهلهم بها وبحقوقهم بشكل عام، فإنهم كانوا، مادة الثورة الوطنية ووقودها المقدس. 

■ اشتراك جميع الطوائف والقوميات والأديان في القتال ضد قوات الاستعمار الفرنسي واضعين مصلحة الوَطن فوق كل اعتبار.

■ في هذا المجال أستميح القارئ عذراً إذا ما اختصرت، لضيق المساحة، الحديثَ عن كفاح أبناء جبل العرب وتضحياتهم، حيث كانوا مقدامين في كل ساح وكانوا مثال الوَطنية الحقَّة، فمن بطاحهم انطلقت الثورة لتعمَّ البلاد، كلَّها ومنهم استلهم الشعب السوري روح الكفاح المسلح، ولذا كانوا جديرين بالقيادة وأقرَّ لهم الجميع بها وتجسدت بقيادة البطل سلطان باشا الأطرش القائد العام للثورة السورية الكبرى.

■ ولدى الحديث عن التضحية الوَطنية لابد من ذكر كفاح إخواننا العلويين بقيادة الشيخ صالح العلي وإخوانه.

ولِمَ لا؟ وقد كانوا بثورتهم، التي

 انفجرت في 25/أيــار/ 1919، حائــلاً دون مرور الجيوش الفرنسية المتوجهة إلى المدن الشرقية عبر ساحل البحر المتوسط. ولهذا كان من جملة الضمانات التي بعث بها الجنرال غورو إلى الملك فيصل لتطبيقها، هو وجوب قطع المساعدات عن عصابات الشيخ صالح العلي في المنطقة الغربية. كما لا يفوتنا هنا ذكر الثورات والحركات الأخرى في منطقة اللاذقية التي قادها عمر البيطار وشارك فيها الشيخ عز الدين القسام وسعيد العاص وغيرهم.. 

■ لقد وَقف أبرز رجالات المسيحيين موقفاً وطنياً مشرفاً حيث برزت في مدن وقرى سورية وجوه عريقة في عروبتها، كان لها شرف السبق في ميدان الجهاد الوطني، ومنها الشاعر المشهور (عبد الله السليم اليازجي وأبناؤه)، وكان أبرزهم شاناً المربي الكبير الأستاذ (سليم اليازجي) الذي أجمعت الكلمة على محضهِ الثقة، تقديراً لمقاصده الوطنية النبيلة ومآثره الحميدة. ولقيت هذه الأسرة أشد أنواع الإرهاب والتنكيل من الفرنسيين.

ومن تلك الفئة الوطنية نذكر توفيق اليازجي وقد كان في الرعيل الأول من رجالات البلاد الأحرار الذين أصدر الفرنسيون أحكام الإعدام بحقهم عقب زوال العهد الفيصلي. 

ولا ننسى أيضاً في هذا المجال ذكر أسرة آل عرنوق في (متن عرنوق - طرطوس)، وكان على رأس هذه العائلة (طنوس بن نقولا عرنوق) وقد نفيت هذه الأسرة في عهد جمال باشا خلال الحرب العالمية الأولى إلى الأناضول وسيق بعض أفرادها إلى الديوان الحربي العرفي في ( عاليه)، فلقوا فيه أهوال التنكيل والإرهاب. 

ومن القادة البارزين الذي خلَّدهم التاريخ الزعيم ابراهيم هنانو، والمحامي الأستاذ( فتح الله الصقال) الذي كان دفاعه البليغ الخطير عن هنانو أمام المحكمة العسكرية بحلب نوعاً فريداً في دنيا المرافعات القانونية، فأنقذه من الإعدام المحقق. 

ومن العناصر الوطنية المهندس الفني السيد ميشيل النحاس الدمشقي، وقد حُكم عليه بالإعدام لمؤازرته الثورة السورية عام 1925م وتشرًَّد عن وطنهِ أكثر من ربع قرن. ولا ننسى هنا ذكر الدكتور سليم محيش الحمصي، ومن النبلاء الوَجيه الحموي السيد فريد مرهج وغيرهم.... 

مواقف تآخٍ وتسامح متبادلة بين المسلمين والمسيحيين: وهذا يتماشى ويتطابق مع شعارات الثورة التي كان يرددها رجالاتها وقادتها المخلصون وقد جاء على لسان أحد قادة الثورة، سعيد العاص ما يلي: 

«إن خطتنا في هذه الثورة هي أن الدين لله والوطن للجميع وإن المصلحة الوطنية فوق كل مصلحة...». 

وما يؤكد هذا التسامح الديني والطائفي وهذه الروح الوطنية العالية ما جاء في مذكرة رئيس السلك القنصلي بدمشق المؤرخة في 21/10/1925م:

«إن سكان دمشق المسلمين حموا المسيحيين واليهود، بمن فيهم الأجانب، أحاطوهم بعطف كبير وذلك عندما فقد هؤلاء أي أمل بالحماية بعد انسحاب القوات الفرنسية من الأحياء التي يقيمون فيها. وقد قام قادة الثورة بزيارة الحي المسيحي في المدينة وعبروا عن المشاعر الأخوية التي يكنها الثوار لإخوانهم». وجاء في البرقيات العمومية: إن الشائع أن الثوار (في سورية) لم يقوموا بما يُؤاخَذون عليه بل إن (حسن الخراط) زار محلات المسيحيين بدمشق وهدأ روعهم قائلاً لهم ( إنكم إخواننا).

وبفخر واعتزاز نذكر أن الأقليات الدينية في النبك قد تمتعت إبان الثورة بالأمان، ولم تقع أية حادثة عدوانية على أفرادها. ولذا فقد فتح المسيحيون دورهم وخبؤوا لديهم الثوار المسلمين الذين لم يغادروا النبك بعد أن احتلها الفرنسيون في 15 آذار 1925. ويشير المعمرون إلى كلمات أهازيج العراضات الشعبية المشتركة التي كانت تجوس الشوارع مُردِّدةً:

فلْتَحيا الوطنية إسلام ومسيحية

ولا يفوتنا هنا أن نذكِّر أيضاً، بمواقف مفكري الحركة الوطنية السورية وقادتها في الربع الأول من القرن العشرين، تلك الأفكار المتنورة والمتسامحة مع الأديان والمذاهب من أمثال الشيخ طاهر الجزائري وممن تَخرَّج من حلقته وفي مقدمتهم عبد الرحمن الشهبندر. 

لقد كان الشهبندر يؤكد في خطبهِ دائماً على (التسامح)، ويحمل فيها بشدة على التعصب الديني والطائفي والمذهبي. ونستشهد هنا بخطابه الذي ارتجله إبان الحفل الذي أقامه له جورج صحناوي بدمشق في عام 1937م حيث قال ما يلي: «... لما أتى الطاغية جمال باشا هل كان يفرق بين من يعمل هكذا وبين من يعمل هكذا (وأشار بيديه إلى شهادة الإسلام وإلى إشارة المسيحيين الثلاثية) هل فرَّق بين بطرس ومحمد؟ هل قال هذا مسلم وهذا نصراني، لقد ذهبنا جميعاً في سبيل العروبة مسلمين ونصارى إلى المشانق».    

■ كما وقف أخواننا الأكراد المواقف الوَطنية المشرفة وقد تجسَّدَت بمواقف شخصيات نذكر منها :

■ المجاهد محو الكردي: الذي أطلق الرصاصة الأولى في وَجه الفرنسيين، وكانت عصابته هي النواة الأولى لتشكيل العصابات السورية. 

وبعد ذلك خرج مجاهد كردي آخر يدعى (تك بيك حاجي) وألَّف عصابة قوية أقضَّت مضاجع الفرنسيين. 

■ العشائر الكردية في منطقة (عامودة)، حيث اتخذت موقفاً وطنياً فقررت إرسال وَفد برئاسة سعيد آغا إلى دمشق يحمل عريضة عليها تواقيع عدد كبير من الوَطنيين يعلنون فيها إصرارهم على الاستقلال التام وإدانتهم لمحاولات فصل الجزيرة. وكان من أعضاء الوَفد: عيسى عبد الكريم، شيخموس هسو، ويونس عبدي. ولما علمت السلطات الفرنسية بهذا الموقف قامت في تموز عام 1937م بقصف منطقة عامودة. 

■ ثورة الزعيم إبراهيم هنانو في جبل الزاوية وشمال سورية في كانون الأول 1920: 

بدأت بتحريض الشعب على الانتفاض والثورة في وجه القوات الفرنسية المستعمرة ثم اندلعت المعارك القتالية قويةً، عنيفةً بقيادة الزعيم الكردي إبراهيم هنانو ورفاقه مثل ابراهيم الشاغوري وهزاع أيوب والكردي محمد زين العابدين وغيرهم وغيرهم...واستمرت حتى حزيران 1921 م.

- اندلاع معارك الأكراد شمالي سورية في آب 1923م (معركة بياندور، القحطانية حالياً):

 نظَّم أهالي هذه المنطقة اتفاقاً، شمل عدة عائلات كردية وبدعم من عشيرة الشمَّر في المالكية، للانتفاض في وَجه مظالم القوات الفرنسية. وبالفعل استطاع هؤلاء بعد اشتباكات دامية، من طرد الفرنسيين وقطع رأس قائدهم ( روغان) وتقديمه هدية لشقيق الشهيد عباس محمد الذي كان قد استشهد في معركة سابقة. 

وحين الحديث عن بطولات أبناء شعبنا لابدَّ أن نذكر البطل الوَطني ووزير الدفاع يوسف العظمة في ذهابه إلى  ميسلون وخوضه تلك المعركة الخاسرة عسكرياً ولكنه خاضها ليُؤسس فيها للأجيال القادمة روح الوطنية والتضحية والصمود. وفي هذا المجال، لا بدَّ من ذكر شعار «الدين لله والوطن للجميع»، الذي قاتل تحته شعبنا وانتصر..

 

■ محمـود سَـمَّور

معلومات إضافية

العدد رقم:
000
آخر تعديل على الثلاثاء, 14 نيسان/أبريل 2020 13:34