أين النظام والمعارضة من الحل الآمن؟

كثرت في الآونة الأخيرة الدعوات المطالبة بالحلول السياسية والسلمية للأزمة في سورية، وترافقت تلك الدعوات مع تزايد أعمال العنف المسلح في مناطق عدة من البلاد، وخصوصاً في مدينة حمص والمنطقة الوسطى، ومع دعوة بعض القوى الاقليمية والمحلية إلى تسليح الحركة الاحتجاجية، ومع ظهور النتائج الكارثية في المناطق التي شهدت اشتباكات بين الجيش والمسلحين بمختلف أصنافهم، كتصاعد عمليات القتل والخطف، وسلب وتخريب الممتلكات العامة والخاصة، ونزوح أعداد كبيرة من الأهالي من بيوتهم ومناطقهم، وتعطل النشاط العملي للناس...الخ.

تكونت الدعوات إلى نبذ العنف، الصادرة عن بعض القوى بين جمهوري المعارضة والموالاة، كردود أفعال إنسانية وأخلاقية مباشرة على الويلات التي لحقت وتلحق بالمتضررين، الذين تتزايد أعدادهم يومياً، وارتدت أرقى أشكالها السياسية والعملية من خلال الدعوة إلى الوحدة الوطنية والسلم الأهلي ومساهمة بعض الناشطين إلى مبادرات المصالحة وجمع التبرعات وإيصالها للمتضررين.. والخ، فكان النجاح حليفاً لبعضها، واصطدمت أحياناً كثيرة بعوائق خطيرة ومعقدة من طرفي النزاع المسلح، وعلى الرغم من أهمية وضرورة هذا النوع من النشاط السياسي والميداني إلا أن بقاءه ساكناً ضمن الحدود السابقة، أي بقاؤه وعظياً دعوياً دون أن يمس جوهر الأزمة والأسباب التي فجرتها، سيبقيه جزئياً ومحدوداً وعرضة للتهميش من جانب بعض الأطراف السياسية والمسلحة، لذا أصبح من الضروري تعميق تلك الرؤية والممارسة حتى تصبح جزءاً من منظومة حل سياسي آمن، تلف حولها حوامل جماهيرية جديدة وواسعة تساهم في تغيير ميزان القوى لمصلحة التيار السلمي على أسس سياسية عميقة جامعة لكل الشعب السوري..

لماذا يغيب الحل الآمن؟
سبق انفجار الأزمة في سورية على المستوى الشعبي بتاريخ 1532011 تفاقم أزمتين عملياً، الأزمة الأولى: أزمة الحركة السياسية والتمثيل السياسي في البلاد، التي تجلت بتغييب الأحزاب السياسية تدريجياً عن الشارع خلال العقود الثلاثة الماضية، بعدما ابتلعها في المقابل جهاز الدولة تدريجياً، مفسداً إياها بالمكاسب والامتيازات، حتى غدت رؤوس كبيرة في جهاز الدولة، وأجساد هزيلة في المجتمع. الأزمة الثانية: الأزمة الاقتصادية- الاجتماعية، المتمثلة بنجاح قوى الفساد في جهاز الدولة وفي المجتمع بفرض برنامجها الاقتصادي الليبرالي، وما نتج عنه من نتائج سريعة ومدمرة للاقتصاد الوطني، من إضعاف للقطاع العام وللإنتاج الزراعي، واتساع سريع لدائرة الفقر والبطالة..
إن حالة التراكب بين الأزمتين السياسية والاقتصادية- الاجتماعية، أطلقت الاحتجاج بالشكل الذي رأيناه خلال العام الماضي، أي أن غياب التمثيل السياسي والأقنية الديمقراطية لم يلغ الصراع الاجتماعي، الموجود موضوعياً، في بنية المجتمع وجهاز الدولة، بل تم خوض هذا الصراع بطريقة استثنائية، فخرج الصراع من وراء ستاره إلى العلن في الشارع وليس في أي مكان آخر، ولم تكن الأحزاب السياسية أطرافا للصراع هذه المرة، كما يفترض الشكل الكلاسيكي، بل ظهرت أطراف جديدة لتملأ الفراغ الذي خلفته الحركة السياسية ومثلت التيارات الاجتماعية المتصارعة بدلاً عنها، بشكل مؤقت ومشوه، ونقصد هنا: القوى الأمنية والجيش وقوى المجتمع التقليدية التي لم يكن لبعضها سابق عهد بالعمل السياسي- التي ترجع أحياناً إلى مكونات ما قبل الدولة الوطنية من عائلية ومناطقية وعشائرية ودينية وطائفية- لذا كان من السهل اللجوء إلى العنف والتسلح في ظل عدم وجود أدوات سياسية تسمح بخوض صراع سياسي سلمي وآمن..
يقابل هذا المشهد المعقد في الداخل السوري، مشهد آخر لا يقل تعقيداً على المستوى الإقليمي والدولي، يمكن قراءته من خلال تتبع السياسات الأمريكية في المنطقة الرامية إلى تصفية المحور المعادي لها، إيران سورية حزب الله والمقاومة الفلسطينية، ونستذكر في هذا المجال: حرب تموز 2006، والملف النووي الإيراني، وملف الانتخابات الرئاسية الإيرانية، والطعن بفوز أحمدي نجاد عبر محاولة إطلاق ثورة ملونة بقيادة قوى الفساد في إيران، كمحاولات لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد والهيمنة على نفط المنطقة ومحاصرة الأنداد الجدد روسيا والصين، حيث تشكل سورية الحلقة التي سيؤدي تفجيرها إلى انفجار باقي حلقات السلسلة، لذا كان من الضروري إغواء الخليجيين والأتراك لتسليح المعارضة وتصعيد العمل العسكري لشل وظيفة سورية في تحالفاتها الإقليمية، وخصوصاً في ظل أفول خيار التدخل العسكري المباشر نتيجة الفيتو الروسي- الصيني..
 
أين النظام والمعارضة؟
غلب العنف والعنف المضاد على الأزمة في سورية، في حين عانت العملية السياسية من تقطع وبطء شديدين، وكانت في كثير من الأحيان مجرد «رفع عتب» ومناورات سياسية وإعلامية. لا يتسع المجال للحديث عن العنف، لأنه كان يومياً، في حين نستطيع حصر الخطوات السياسية على مر الأزمة.. الإعلان عن حزمة الاصلاحات في الأسبوع الأول من بداية الأحداث، اللقاء التشاوري، مبادرة الجامعة العربية وبعثة المراقبين، وأخيراً مبادرة المبعوث الدولي كوفي عنان، وما يزال العنف والفوضى جاريين على قدم وساق، وما يزال آلاف المعتقلين في السجون، والتظاهر السلمي ممنوعاً.. الخ، وهذا يقع على عاتق النظام طبعاً، أما فيما يخص المعارضة يمكن القول- إذا استثنينا المعارضة الوطنية في الداخل- إنها رافضة للعملية السياسية كلياً، وإنها كونت ذاتها من خلال مجلس إسطنبول ضمن منطق «حكومة ما بعد التدخل العسكري»، في حين أنها تسعى إلى دفع الحركة الشعبية إلى العنف من الخارج بما يضمن تدخل عسكري يأتي بهم إلى الحكم..
يمكن القول في المحصلة أن قوى الفساد في النظام وقوى المعارضة اللاوطنية تسعى إلى حل غير آمن يضمن لها احتكار سلطة البلاد من جديد بعيداً عن أهداف الحركة الشعبية، وهي تنجح في فرض ذلك حتى اللحظة..

 منظومة الحل السياسي الآمن:
إن الوصول إلى الحل الآمن يقتضي قبل كل شيء صياغة رؤية على أساس حل تناقضات الوضع الداخلي أولاً، بالاستفادة من وضع سورية السيادي التاريخي في المنطقة، والاستقلالية العالية عن التدخلات الخارجية التي تميزها، والحماية التي قدمها الفيتو الروسي- الصيني من التدخل العسكري المباشر مؤخراً، وليس عبر استجلاب المزيد من القوى الدولية المعادية والطامعة بثروات البلاد والمنطقة، كـ «حكم- خصم» على وضد السوريين..
وتحت هذا السقف أصبح من الضروري أن تقوم الأطراف السياسية الوطنية، في النظام والمعارضة، بانتزاع مبادرة الحل من يد القوى الأمنية في جهاز الدولة، ومن يد المسلحين في المجتمع، القوى التي تستعيض عن الصراع السياسي السلمي والآمن الضروري للوصول إلى البنية السياسية الجديدة، بصراعات مسلحة عنيفة أصبحت خطراً جدياً على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي. على القوى الوطنية أن تبادر إلى الحل من خلال إحياء القضايا الجامعة للسوريين، ضمن مشروع للتغير الوطني الديمقراطي الشامل، وعلى رأس هذه القضايا: القضية الوطنية ومسألة تحرير الجولان، وتوحيد قوى الدولة والمجتمع ضد الفساد الذي يتستر تارة وراء جمهور الموالاة، وتارة وراء جمهور المعارضة، والبدء بعملية الحوار السياسي الشامل الذي لا يستثني أي قوة سياسية واجتماعية وطنية، وذلك لإطلاق العملية السياسية الحقيقية التي تؤمن علاقة صحية بين المجتمع وجهاز الدولة..
إن مستوى العنف الذي وصلت إليه البلاد أصبح أكبر من أن تحله القوى التقليدية، وأصبح أكبر من أن يحل بالطرق الأمنية أو المسلحة، بل أصبح بحاجة إلى خطوات سياسية ومصالحات جريئة، وهذا لا تقوم به إلا السياسة والسياسيون.
■■