رأي في أزمة الحزب الشيوعي السوري

كثرت التحليلات والتوصيفات منذ أكثر من ثلاثة عقود، وتعدد كتاب هذا الاختصاص النوعي في المرض العضال الذي نهش جسد وقلب الحركة الشيوعية السورية بخاصة، والحركة الشيوعية العالمية بشكل عام. وبرز منظرون قديماً وحديثاً، كانوا غير عادلين ومنصفين، فغلبوا السواد على البياض، وشوهوا تاريخ الحزب الشيوعي السوري، فكانوا ناقمين، لا مصلحين، ويطمحون لتحقيق مصالحهم، أو هناك من كان يسخرهم، ويرشيهم!

لاتزال الأزمة إن وافقنا أو لم نوافق، تمشي في جسد وعروق الحزب ومفاصله (كلمة الحزب  هنا تعني كل الشيوعيين) فهي أزمة ـ دائمة، في حالة كمون مزمن، ولم تظهر إلى السطح إلا قسراً، كما في حال (تيار قاسيون) لأن الظروف الجديدة بعد العام 1991، لا تسمح أكثر من هذه التعددية التنظيمية. ويكفي أن عقدي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين كانت زاخرة وحافلة بالانقسامات التي عاشت فترة، ثم تلاشى بعضها، وبقيت بعض الأهرامات كشاهد تاريخي، وهي معروفة (منظمات القاعدة ـ المكتب السياسي ـ اتحاد الشيوعيين ـ جماعة جزماتي ـ بدر الدين السباعي ـ  واللاجماعة وسواها). لأسباب عديدة.

مر الشيوعيون في محطات صعبة، أرهقت مسيرة الحزب، وأعاقت تطوره الطبيعي، مما أدى إلى تخلفه وفقره فكرياً وسياسياً وتنظيمياً، أي أصبح الحزب (معوقاً). وكانت الانقسامات مسألة شائكة عامة، تعرض لها عشرات الأحزاب الشيوعية في العالم. وكل جماعة كانت تنفصل أو تفصل من الحزب، تصدر البيانات وتحدد المواقف، وتدلي بالتصريحات وتقدم الخلاصات. وتدعي بكبرياء أنها تمتلك الحقيقة، وهي بلشفية أصيلة، مادامت تقتدي بالحزب اللينيني، وتدافع عن الاتحاد السوفييتي العظيم، وجاء هذا الفصيل مخلصاً، لأن الانقسام برأيه صحة وعافية. وتستر بعضهم تحت فيء الشعارات التي تعبر عن مصالح العمال والفلاحين، وهي طليعة نضالهم. وتشجب المركزية الشديدة وعقلية الفرد و الديكتاتورية، وتتهم الآخرين بالخروج عن النظام الداخلي...إلخ. وفي ختام كل بيان أو وثيقة، يكون الجواب الصائب (أثبتت الحياة صحة سياستنا). وتناشد الحزب الشيوعي السوفييتي الصديق الكبير، وبلد لينين العظيم، اتخاذ الموقف، وإدانة العصابات الانقسامية المارقة العميلة، وإلى ما هنالك من  اتهامات باطلة، أثبتت الحياة فعلاً عدم صحتها.

فلا عمالة لمجموعة من الخارج أو الداخل، وإذا كانت هناك عمالة فهي للأفراد، والوثائق والبيانات هي أكبر البراهين، وغير ذلك سيكون هراء. وكل طرف من أطراف الانقسام، كان يعمل بإخلاص لإنجاح خطته وتثبيت مواقعه والاعتراف به، دون أية حسابات للأضرار الناجمة والمخاطر المحدقة التي تعرض لها أو يتعرض لها الحزب. فترك التنظيم الآلاف، وهاجر من هاجر، ومات من مات، وتقاعد من تقاعد، وأصبح لسان حال معظم هؤلاء (الشتائم والمسبات)، واختلاق الحجج الواهية التبريرية، لتحقيق مشروعية تركهم، وإدارة ظهورهم.

أصبح الحزب «أكاديمية» أي أكبر بكثير من مدرسة، تخرج المنظرين والانقساميين وتدرب الشيوعيون في هذه الأكاديمية على التعامل الحداثي، وما بعد الحداثي، مع الآخرين، وحصلوا على شهادات عالية في إشعال مواقد وحرائق الفتن. وكل جماعة كانت تعمل وتستخدم كل الأساليب للتخلص من الجماعة المضادة لها، فشوهوا جمالية الماركسية، وبدؤوا يرددون النصوص دون أن يترجموا دلالتها في واقع متخلف، يحتاج إلى مترجمين حقيقيين، وأدلاء أصحاء يقرؤون بشكل صحيح، ويمتلكون اللغة الوطنية غير المستعارة، واللغة الماركسية التي يفهمها شعبنا.

ومع التقادم سقطت «النصية» وضاعت «الحقيقة» في المتاهات والمصنفات. كلما حقق جناح أو فصيل «الانتصار» على الجناح الآخر، كان يستمر في سعيه، ويبذل جهداًَ فوق طاقته ويحرق وقوداً كثيراً، ويبذل أقصى ما عنده من «محبة وصدق» وإخلاص وتمجيد وتعظيم لحزب لينين، ويكبر بصوته الحنون على عديد الموجات الصوتية، والذبذبات العصرية، مستفيداً من معطيات العصر، لينتزع من السوفييت ـ رحمهم الله ـ  الخاتم، ويصبح الحبر اللينيني مبرراً على التفوق والشرعية، والانتصار على الانتهازية والتروتسكية، وعلى العملاء والانتهازيين والوصوليين، ويوجهون دعوة صريحة أو نصيحة إلى جنودهم المتخندقين، بقراءة (مرض الطفولة اليسارية) ويطلبون العودة إلى «بيت الطاعة» انطلاقاً من المقولة اللينينية التي لم أحفظها: (إذا كان حزبان شيوعيان في بلد واحد فأحدهما انتهازي).

سقطت هذه المقولة مع التقادم بلغة القانون، وتبين أنها غير صحيحة، فقد نشأت أحزاب شيوعية تحت أسماء مختلفة، وعاشت في الظروف ذاتها ولم تكن انتهازية. مثل (الحزب الشيوعي  الماركسي الهندي، والحزب الشيوعي الهندي) فالأول حقق جماهيرية واسعة، وتجاوز الثاني فكرياً وسياسياً وتنظيمياً، فاضطر الثاني تحت ضغط أعضائه إلى التنسيق معه، وحقق الحزبان خطوات إيجابية في الحياة السياسية الهندية.

في (أوراق العمل) ثمة أفكار ومسائل كبيرة، قابلة للحوار، وإقامة الندوات حولها بعيداً عن التخندق، ورأيت فيها أنها غير متشددة، فجاءت مفتوحة خالية من الحتمية والصرامة. ويبدو أن الرفاق استفادوا من التجارب، لأنهم كانوا أطرافاً في المواجهات الساخنة، فوق حلبات الانقسامات. وتبين أخيراً (لهم ولكل الشيوعيين) أن أسمى قضية هي قضية وحدة الشيوعيين.

وكان ينقص أوراق العمل، حضور بعض التجارب التوحيدية التي حققت بعض النجاحات كـ (تجربة الحزب الشيوعي الإسباني على حد علمي ـ وتجربة حزبنا) وتجارب فشلت فشلاً ذريعاً، مثل (تجربة الحزب الشيوعي الأردني...) لتذكير الشيوعيين بفوائد الوحدة، وما جلبته الانقسامات من مآس وأمراض، قبل العام 1991 (عام الزلزال الكبير) وبعده.

تطرح الأوراق أفكاراً، وإن تكررت، لكن لامفر من طرحها، وهذا حق طبيعي ومشروع، وظهرت خلال العقود الماضية العديد من الدراسات والحلول والنتائج، وإن كنا لا نوافق على بعضها ولنا ملاحظات كثيرة عليها، ونتفق مع بعضها، نظراً لواقعيتها وموضوعيتها.

أتمنى أن الحزب الذي سيولد من جديد (وهذا بعيد المنال الآن) من رحم الانقسامات، وفوق جثث وجماجم سياسة الإبعاد والإقصاء والفقوس والخيار، أن لايولد ميتاً، ليحقق أحلام المخلصين وهم كثر، وأحلام المترقبين والمنتظرين  وهم كثر، لأن الولادة ستتعثر، والخوف أن تكون ولادة قيصرية، أو يأتي المولود «منغولياً»... وسيقول قائل: لماذا الخوف إذا توفرت الإرادة؟ هذا صحيح، لكن سيكثر الأوصياء، والمعرقلون، وسترتفع الأصوات المناهضة للوحدة، بخلق المبررات، ووضع العصي في الدواليب، والدعوة إلى أن الظروف غير مؤاتية.

إن شيوعيي المستقبل الذين سيلتقون ويتوحدون في حزب واحد ينبغي أن يتجاوزوا واقعهم المأزوم، كي لايتم التساقط في خريف أكثر مرارة من كل الفصول، و الابتعاد عن الجوهر والعودة إلى المسائل الأكثر تخلفاً.

 

■ باسم عبدو