الشيوعيون السوريون... أسئلة التاريخ والساعة؟

الشيوعيون السوريون... أسئلة التاريخ والساعة؟

ما الذي يمكن قوله في ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي السوري، بعد اثنين وتسعين عاماً من تأسيسه؟ هل من اللائق الاكتفاء بالتغني بالماضي والاعتياش عليه؟ و«كفى الله المؤمنين»..! بما يعكس عجزاً تجاه ممارسة الدور التاريخي المطلوب في المرحلة الراهنة، أم الانضمام إلى جوقة الدجالين، والكذابين، والإمّعات، والبلهاء، والتافهين، والمهزومين،  في صب اللعنات على هذا التاريخ، والتبرؤ من الماضي، وصولاً إلى المساهمة في تشويهه، وتزويره، تعبيراً عن الانهزام أمام العدو الطبقي..؟ 

 

لا أعتقد، أن هذه أو تلك، تليق بمن يمتلك أبجديات علم الاجتماع السياسي، ويتحلى بالحد الأدنى من المصداقية الوطنية والأخلاقية تجاه تاريخ تيار سياسي كان على مدى عقود رقماً أساسياً في التاريخ السوري، وما زال يمتلك الضرورات والمبررات كلها لاستمرار وجوده ودوره، بعيداً بالطبع عمن يزعم اعتماد الديالكتيك المادي في تحليل الظواهر، وقراءة الأحداث التاريخية، ولكنه يقيّم التجربة التاريخية للحزب الشيوعي السوري بشكل سطحي.

الولادة والظهور

تأسس الحزب الشيوعي في 28 تشرين الأول من عام 1924 في بيئة تهيمن عليها العلاقات الإقطاعية، وفي بلد أرادت له الجغرافيا السياسية أن يكون في قلب الأحداث، خلال مروره بوضع تاريخي انتقالي ما بين التحرر من النير العثماني، والوقوع تحت السيطرة الاستعمارية الغربية، في إطار سياسة تقاسم النفوذ بين الدول الإمبريالية التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى، في مقابل ظهور الاتحاد السوفييتي كقوة دولية جديدة، بعد نجاح ثورة أكتوبر عام 1917، كمشروع نقيض للمشروع الاستعماري، تولى «فضح اتفاقيات سايكس- بيكو»، وامتد تأثيره السياسي والدبلوماسي والمعنوي إلى أقاليم العالم المختلفة. 

ما يراد قوله هنا، بأن ظهور الحزب الشيوعي السوري، كتيار فكري وسياسي هو نتاج تقاطع ضرورات تاريخية، بأبعادها السورية، والدولية، ولم يكن مجرد رغبة ذاتية عند المؤسسين والرواد الأوائل، بل تعبيراً عن حاجة موضوعية سورية، وفي الوقت نفسه جزء من تيار عالمي جارف، ارتعدت أمامه قوى العالم القديم كلها.  

صاغ الحزب الجديد برنامجه الأول «برنامج الحزب الشيوعي، وبعض من بروغرامه»، ليكثف التحديات المنتصبة أمام الشعب السوري، وقواه الحية، في حينه، وليسجل بذلك الريادة في الحياة السياسية السورية، معبراً عن فهم متطور في آليات تنظيم القوى الطبقية المستغَلة في نضالها من أجل الاشتراكية، رابطاً بينه وبين الأهداف الآنية الخاصة بضرورة تحقيق الاستقلال الوطني. ويسجل للحزب الشيوعي السوري، أنه أول من بادر إلى تنظيم قوى المجتمع في هيئات ونقابات وجمعيات تخصصية مهنية أهلية، ذات أهداف مطلبية، وليس سراً أن أولى التنظيمات العصرية، للعمال، وجمعيات الفلاحين، والمرأة والشباب، والمعلمين، وروابط الكتّاب، وغيرها من أشكال تنظيم قوى المجتمع تأسست بمبادرات من الشيوعيين، قبل أن تتفتق عنها «عبقريات» دعاة ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني بعد عقود من الزمن، بعد أن تم تدجين تلك التجارب سلطوياً في سياق التطور السياسي في البلاد. 

ربما يكون أمراً اعتيادياً أن يزعم أحدهم اليوم  أنه يرفع راية الفكر الماركسي في سورية، وأن يتحدث عن حرية المرأة، وحق العمال بالإضراب، وحق الفلاحين بالأرض، وحق المرأة بالتحرر من القيود، وحرية التعبير والرأي، والنشاط الحزبي والسياسي. ولكن لم يكن أمراً عادياً قط آنذاك، أن يحمل الشيوعيون بمفردهم هذه الافكار في تلك الظروف، وتصبح من بديهيات العمل السياسي لدى قطاعات شعبية واسعة، بعد عقدين من الزمن. والحال كذلك، فإن الإنصاف يقتضي أن نسجل ذلك كمأثرة باسم الشيوعيين السوريين. نعم، إن ما أصبح بديهياً في سورية منذ أربعينات القرن الماضي من أفكار التحرر الوطني والاجتماعي، لم يصبح بديهياً بمحض الصدفة، أو مِنّة من أحد، بل انعكاساً للاستناد إلى منصة معرفية متقدمة، في فهم اتجاه التطور العالمي، وتأثيراته على سورية والمنطقة، اقترنت بجملة قيم ومبادئ، كالغيرية، والصدق، والشجاعة، ونكران الذات، حيث باتت الأفكار الاشتراكية القاسم المشترك بين برامج  القوى السياسية السورية كلها، بغض النظر عن صدق تلك القوى من عدمه، لدرجة أنه حتى جماعة مثل الإخوان المسلمين، بحثت إمكانية إضافة صفة الاشتراكي إلى اسم تنظيمهم، على ذمة أحد كبار المثقفين في تلك المرحلة. 

مرحلة التراجع ..!

بعد الدور الكبير الذي لعبته الحركة الشيوعية العالمية، في النصف الأول من القرن الماضي، والانتصارات التاريخية الكبرى، مثل: ثورة اكتوبر، والانتصار على الفاشية، شهد النصف الثاني من القرن ذاته سلسلة تراجعات أمام العدو الطبقي، كانت ذروتها انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي.. وكان من الطبيعي أن يترك هذا التراجع– ومن ثم الانهيار- تأثيره على الحزب الشيوعي السوري، باعتباره جزءاً من هذه الحركة.. 

ويلاحظ المتابع أن التراجع غير المعلن وغير المكتشف لدى طليعة الحركة في حينه، انعكس على الحزب الشيوعي السوري، في سلسلة أزمات وانشقاقات متلاحقة، لم يسمح المستوى المعرفي في حينه، إدراك أبعادها كلها، وخصوصاً دور التراجع في عموم الحركة، حيث كان السائد أن الحركة الثورية تتقدم. وأمام كل انشقاق كان كل طرف يظن أنه أنقذ الحزب من النزعة التحريفية، اليمينية أو اليسارية، وأنه  سيعيد الاعتبار لدوره في حياة البلاد، ليصطدم خلال فترة قصيرة بأزمة جديدة.

انفتاح الأفق مجدداً

بعد انهيار التجربة الاشتراكية في عام 1991 طرحت الحياة على الشيوعيين كغيرهم من أحزاب الحركة أسئلة ذات طابع وجودي، وسارع عديدون، إلى تبديل مواقعهم، والكفر بماضيهم، والتبرؤ منه، والتماهي مع أطروحات العدو الطبقي، في حين بقي بعض آخر أسير الماضي والاقتصار على ترديد الانتصارات التاريخية، واعتماد التفسيرات التي لا تسمح بالاستفادة من الإرث الثوري العظيم في الحركة، لا بل تحنيطه، والتغني به كمجرد ماض جميل. الطرفان، وكل من موقعه، ولغاياته، راح يكيّف نفسه مع الوضع القائم، والاكتفاء بما هو ممكن، ولكل منهم «ممكنه» طبعاً..! «ولا حول ولا قوة إلا بالله»..!

وفي الأثناء، برزت قوى حية في الحركة الشيوعية السورية، رأت في الوضع الناشئ حالة مؤقتة وعابرة، مستندة في ذلك إلى أزمة العدو الطبقي «الرأسمالية» وتراجعه، وانفتاح الأفق أمام الحركة الثورية من جديد. ولعل أبرز ما أنجزه التيار الجديد هو المنصة المعرفية، التي تسمح له بفهم خصائص الصراع الطبقي في سورية، والعالم وآفاقه، فصاغ رؤية متكاملة سمحت له بتحديد المهام، وبالتالي ضرورة توفير الأدوات الضرورية التي تسمح بالقيام بالدور الوظيفي للحزب، فكانت فكرة ترابط المهام الوطنية والاقتصادية- الاجتماعية، والديمقراطية. وكان كل من: فكرة وحدة الشيوعيين السوريين، والحوار الوطني الشامل، والتحرر من منطق «الثنائيات الوهمية»، والموقف من الحركة الشعبية، وضرورة التغيير الوطني الديمقراطي الجذري والعميق والشامل، وكانت الريادة في طرح مفهوم التوزان الدولي الجديد، والحل السياسي للأزمة السورية التي انفجرت في 2011، والذي أضحى خياراً دولياً وإقليمياً وداخلياً..

سفينة خلاص

إن جملة العناصر التي شكلت رؤية حزب الإرادة الشعبية منذ بدايات الألفية، أي منذ تبلور تيار وحدة الشيوعيين السوريين، من حيث هي نسق متكامل من الأفكار، والمواقف، تنطلق من الواقع في إطار حركته الدائمة، وتفاعلاته، وهي تشكل اليوم مرآة تعكس حقيقة الواقع السوري وضروراته. 

ولا مبالغة في القول، بأنها سفينة الخلاص الوحيدة، في ظل الخطر الوجودي الذي يتهدد سورية، عدا عن كونها رؤية ثورية، تليق بما يستحقه الشعب السوري من «حريته في كلمته ولقمته»، مثلما تليق بتلك التضحيات الجسام التي قدمتها أجيال من الشيوعيين السوريين على مدى اثنين وتسعين عاماً، وهي تأتي استمراراً لصوابية مواقف الشيوعيين السوريين في المنعطفات التاريخية الكبرى، التي مرت بها سورية «معارك الاستقلال، نكبة فلسطين، الوحدة السورية المصرية، إلخ»، ودفاعاً واقعياً عنها في ظل هستيريا الهجوم، والتشويه والتشويش، الذي يمارسه حفّار القبور العاطل عن العمل، والعطّار الليبرالي المفلس، وسط تقدم القطب الدولي الجديد، بما يحمله ذلك كله من دلالات ومعانٍ.