الافتتاحية: أي انفتاح نريد؟

لا شك أن العالم يسير موضوعياً نحو الانفتاح والتشابك بين أجزائه المكونة في كل المجالات.. وقد تنبأ بذلك مبكراً ماركس وأنجلز في البيان الشيوعي عام 1848 حينما قالا بتكوّن السوق العالمية، في وقت كانت العملية ما تزال في بداياتها، وأكدا أن البرجوازية (منذ ذلك الحين) تحاول خلق عالم على صورتها، وشدّدا على أنها ستصبح كالمشعوذ الذي يفتقد السيطرة على التحكم بالقوى الجهنمية التي استحضرها.. وأن هذه الأسلحة سترتد عليها هي نفسها...

واليوم، نرى مآل هذه النبوءة العبقرية في ظل الأزمة المالية العالمية العظمى التي تعصف بالنظام الرأسمالي، لذلك إذا كنا نفهم ونتفهم موضوعية عمليات الانفتاح الجارية بين أجزاء العالم المختلفة، وبلدنا منها، إلا أننا لا يمكن إلاّ أن نكون ضد الشكل الذي تحاول أن تفرضه هذه الرأسمالية على هذه الانفتاحات التي تريد أن تكون عبر اتفاقات إذعان غير متكافئة لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعوب التي اضطهدت تاريخياً عبر مختلف أشكال الاستعمار..

من هنا أهمية معالجة مختلف أنواع الشراكات التي تندمج فيها سورية، الواحدة بعد الأخرى.. وبعيداً عن القول بضرورة الانكفاء والانغلاق، يجب السير نحو إيجاد الظروف المثلى والأفضل للتعامل مع الخارج.. وهذه الشروط لا يمكن أن تتوفر دون دراسة هذه الشراكات وأهدافها وشروطها من جهة، ودراسة نقاط القوة والضعف لدينا في المجالات كافة، وخصوصاً في الاقتصاد السوري باتجاه تعظيم نقاط القوة وتحجيم نقاط الضعف من جهة ثانية.. وإلاّ لن تكون هذه الشراكات، وخاصةً الأوروبية منها، إلاّ طريقاً لمزيد من إضعاف الاقتصاد السوري، وبالتالي إضعاف الدولة السورية بمعناها الجغرافي- السياسي ودورها التاريخي في محيطها المعروف..

واللافت للنظر، وهذا ليس موضوعنا الأساسي الآن، أنه لم تجر دراسة كافية ومعمقة لشروط الشراكات التي لو جرت في حينه بشكل كاف لوضعت المفاوض السوري، وبالتالي الاقتصاد السوري في وضع أفضل كنقطة انطلاق في التعامل اللاحق..

ولكن الحياة تفرض علينا اليوم البحث في نقاط القوة الكامنة في الاقتصاد السوري التي لو أطلقت لعززت إمكانياته، ولاستفادت إلى الحد الأقصى من ظروف الأزمة العالمية التي وإن سببت أضراراً إلاّ أنها تخلق فرصاً جديدةً بما لا يقاس مع الماضي لمن يحسن الاستفادة منها..

إن سورية بلد غني بكل معنى الكلمة، وأساس غناها هو تنوع مواردها والمستوى المرتفع نسبياً لمواردها البشرية بالقياس مع البلدان التي تتشابه ظروفها مع ظروفنا..

والأهم في تنوع الموارد الوطنية هو فرادتها المرتبطة بظروفها الجغرافية- المناخية، ولكن المشكلة أن هذه الموارد التي يمكن أن تؤمن لسورية ميزات مطلقة، غير مدروسة بشكل كاف، وحتى إنها غير معروفة إلى حد كبير.. إن التوجه نحو هذه الموارد من حيث الدراسة والاستكشاف والاستخدام سينقل سورية إلى عصر جديد، وسيسمح لها بنمو جبار خلال سنوات قليلة.. ولكن هذه المهمة يستحيل حلها دون تضافر قوى المجتمع الذي تقوده دولة تعبر بعمق عن مصالحه.. الآنية والبعيدة المدى..

والمشكلة أن السياسات الاقتصادية الليبرالية أثبتت عجزها عن حل أبسط المهام الآنية، فكيف بالمهام الاستراتيجية البعيدة المدى؟ وعجزها يكمن في فلسفتها التي لا تسعى إلى تجميع الأجزاء في كل واحد، بل العكس تماماً هو الصحيح، فهي تسعى إلى إضعاف الكلي بحجة تشجيع المبادرات الرأسمالية الخاصة التي لن يكون بمقدورها في أي يوم من الأيام حلُّ مهمة كبرى من هذا النوع، هدفها دفع جميع الإمكانات والمبادرات الفردية والجماعية والاجتماعية باتجاه مصلحة البلاد العليا علمياً ومعرفياً وإنتاجياً واقتصادياً...

لذلك، يصبح التصدي لهذه المهمة اليوم ضرورةً موضوعيةً كي تجد سورية مكانها الطبيعي في خريطة العالم والمنطقة، الأمر الذي يتطلب صياغة النموذج السوري الضروري للانطلاق القادم نحو المستقبل، بعيداً عن النموذج الليبرالي الاقتصادي، وبالاستناد لكل التجارب السابقة له، التي أعطت الكثير رغم ثغراتها ونواقصها، والتي لا يمكن بحال من الأحوال العودة إليها، على الأقل لأنه لا يمكن المرور بمياه النهر نفسها مرتين..

إن وعي هذه الحقيقة والعمل على أساسها سيغير موقع سورية في عمليات الانفتاح الجارية، ويحوَّلها إلى قوة مادية حقيقية تستطيع الدفاع عن مصالحها على طاولات المفاوضات، وخلال التطبيق التنفيذي لأية شراكة كانت، لأنها حين ذاك فقط تصبح شراكةً بين أنداد، وليست بين قوي وضعيف مغلوب على أمره، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن..