الأزمة الرأسمالية العالمية المتفاقمة.. والمناورات اليائسة!

تدخل الأزمة الاقتصادية العالمية مرحلة جديدة.. ظاهرها أننا أمام دول صناعية اقتصادية كبرى مهددة بالإفلاس، وديون متراكمة..

ثمة أسئلة بسيطة يمكن طرحها هنا.. لماذا أغنى دول العالم حكوماتها مدينة بمبالغ ضخمة، واقتصادياتها تنمو بمعدلات بطيئة جداً.. من أين كل أموال الدين، ولماذا لا تدخل ببساطة في الإنتاج الاقتصادي، هل من المنطقي أن تعالج الديون بديون إضافية؟؟ لماذا تنال خطط التقشف من أموال العاملين بأجر والمستهلكين؟؟

ما هذا العبث الذي يعصى على الفهم في هذه المنظومة العالمية، لماذا الولايات المتحدة أغنى دول العالم، وقادرة على شن حروب ضخمة، ولديها أعظم عتاد عسكري، وهي دائنة بمبالغ أضخم من ناتجها الإجمالي وغير قادرة على زيادة إنتالجها بأكثر من معدل وسطي 3 %؟.

سنبدأ بالإجابة بالبحث عن مسببات الدين، وبالتالي عن طرق الخروج منه..؟ 

ما الحاجة إلى الدين؟

تعاني المنظومة الاقتصادية العالمية من معضلة حقيقية تتلخص بسبل تصريف الفائض، فائض الربح الاحتكاري العالمي، الذي ينتجه شكل الإنتاج العالمي حاليا القائم على أعلى مستويات التمركز الرأسمالي من جهة والذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالتقسيم الدولي للعمل، بالتجارة  الدولية غير المتكافئة، بالتفاوت الكبير في الدخل والثروة بين دول العالم من جهة، وبين الطبقات الاجتماعية داخل الدول من جهة أخرى.. 

النمو الضعيف

لماذا يتوجب امتصاص الفائض؟ لأن ضخ هذا الفائض كأموال مستثمرة في الإنتاج، يقلل من ربحيتها، وتحديداً مع عدم إمكانية توسيع الاستهلاك، ومن هنا ينتج النمو الضعيف كمنهجية حتمية للحفاظ على الربح الأقصى.

المؤسسات الرئيسة في المنظومة العالمية وهي شركات الإنتاج الاقتصادي الكبرى، المولدة الرئيسية للثروة العالمية، المكان الذي تخلق فيه القيمة المضافة على مستوى العالم، محكومة بمستوى من الإنتاج يجب أن يراعي إمكانيات الاستهلاك العالمي، أي محدودة بمستوى توزيع الثروة عالمياً، وهو ما يجعل التوسع العالمي في هذه القطاعات ضئيلاً على مستوى رؤوس الأموال العالمية، إذا ما قيس بالتوسع الكبير في الأموال المستثمرة في مجالات أخرى، دورتها الاقتصادية أسرع ومعزولة نسبيا عن شروط الاستهلاك، وهي القطاعات المالية، وما تولد عنها من منظومة الأسواق المالية العالمية، وتطورت أدواتها بشكل واسع نظرا لاتباعها كآلية هامة لتدوير الفائض الربحي الاحتكاري، وإخراجه من الدورة الاقتصادية الحقيقية، مع تحقيق فوائد ريعية تضخمية.

الدولة الرأسمالية والدين الحكومي

تقوم الدولة الرأسمالية الصناعية حديثاً بدور المنظم والضابط لآليات امتصاص الفائض، والأدوات متعددة أهمها الإنفاق الحكومي. إلا أن هذا الإنفاق أصبح يأخذ طابعا متناسبا مع وزن القوى الاحتكارية، ومتماشيا بالتالي مع مصالحها بلا مراوغة، فإنفاق الدولة الرئيسي يتم على الديون الحكومية وفوائدها، حيث تعوم السندات الحكومية في الأسواق المالية العالمية، وتعد المكان الأكثر أماناً وضمانة لأهم المؤسسات المالية، الشركات العالمية والمستثمرين، حيث تأتي الموثوقية العالية بهذه الأوراق من هيمنة الدولة الرأسمالية وأدوات سيطرتها المباشرة والواسعة..

بالإضافة للدين الحكومي، توظف الدولة الرأسمالية أموالا واسعة في دعم وحماية شركات السلاح العالمية، وتعد مبالغ الإنفاق العسكري الأرقام الأكبر في الإنفاق الحكومي لأغلب دول العالم المتقدم، العسكرة كآلية أيضا لتوجيه الإنفاق الحكومي نحو امتصاص الفائض، تحقق إضافة لذلك ضمانة لوضع الدولة المالي، فالهيمنة العسكرية تتيح إمكانية النهب المباشر للموارد بالغزو العسكري، وبالحرب التي تمثل محركا للاقتصاد العسكري، ولتجارة العنف، وبالمقابل الإنتاج العسكري قطاع صناعي يمتص الفائض العالمي، ويتم فيه أوسع تكثيف تكنولوجي، ويولد أرباحاً خيالية، وتستطيع منظومة الفوضى العالمية أن تولد سوقا واسعة وطلبا كبيرا لا ينتهي على المنتج العسكري.

وتتيح قدرة الدولة على سن التشريعات ضمانة إضافية للاستثمار الواسع في الديون الحكومية، وبقائها على عرش آليات امتصاص الربح الاحتكاري، القوانين التي تتيح تحويل الأموال المباشر عند الحاجة من المنتجين والمستهلكين الصغار، إلى أصحاب الثروات والدائنين، وهو ما يتمثل بضغط الإنفاق الاجتماعي أو فرض الضرائب على الشرائح الصغرى والعاملين بأجر، لحل أزمة الديون..

الإنفاق الحكومي بشقيه، على الدين، وعلى العسكرة، عملية متكاملة توضح مدى ارتباط منهجية السياسة الاقتصادية العالمية بالمنظومة الرأسمالية الاحتكارية، وبمصالحها، وبأزمتها، وهو ماتظهره المرحلة الحالية، فالدين الكبير لن يدفع هذه الدول إلى دفع عجلة النمو والإنتاج، لأن ذلك يتطلب تغيير بنية التوزيع، وتتم العملية بالعكس. الدين الممتراكم، يعالج بدين أكبر، وفوائد أعلى، والدولة المتورطة، ستوظف هيمنتها لمنع الانهيار، سواء عن طريق إعادة التوزيع لمصلحة الأغنياء، وهو مايظهر من خطط التقشف، أو عن طريق الحرب، استخدام الهيمنة العسكرية، وهو ما بدأت معالم ظهوره استباقا في أفغانستان والعراق، ولم يستطع أن يقدم حلا ناجعا، أو يجنب هذه الدولة الأزمة، وهو ما يستكمل اتباعه في ليبيا وغيرها.. 

ولكن إلى متى؟

هل تستطيع هذه الدول الاستمرار بشكل دائم في حماية الفائض الاحتكاري، وخلق وسائل لامتصاصه وحمايته من الانكشاف، كأن تنهار أسواق الأوراق المالية، نتيجة حالات الامتناع عن السداد، أو أن تعلن إحدى الدول إفلاسها، أو أن تتقلص قيمة الدولار المتضخمة عالمياً نتيجة كل ما سبق..

لن تستطيع هذه المنظومة أن تحل الأزمة الحالية بالسياسات المتبعة، أي بدفع الأزمة إلى الأمام، عن طريق الاستدانة أو الحرب، فالانهيارات لابد أن تحصل إن عاجلا أم آجلا، طالما يتم تجاهل جذر المشكلة، وهو توليد النمو الاقتصادي الحقيقي، والذي لا يمكن أن يتم، حتى لو تغيرت القوى العالمية أو تعددت الأقطاب، إلا بتوسيع دائرة الاستهلاك، وهو ما يتطلب في ظل مستوى التمركز الرأسمالي العالي المستوى، إعادة توزيع الثروة بين الأرباح العالمية والعاملين بأجر، بين دول الشمال ودول الجنوب، وحتى بين المراكز الرأسمالية، التمركز الذي ينتج بشكل تلقائي عن آليات النظام الرأسمالي، سيعيد تشكيل الأزمة، وتضييق الاستهلاك، وهو ما سيضع تغيير بنية النظام الأساسي، أي تغيير طبيعة الملكية الرأسمالية الاحتكارية، على طاولة البحث الفكري والنظري والعلمي، بعد أن ظن الكثيرون بأنها أصبحت من المسلمات.

آخر تعديل على الأربعاء, 12 تشرين1/أكتوير 2016 13:36