على هامش النّقاش حول الهرَم الاجتماعي والهرَم التنظيمي

يدور نقاش بين الرفاق عن بنية الحزب المنشود للقيام بالدور الوظيفي، ومما لاشك فيه أن هذه البنية هي بنية متكاملة فكرية وسياسية وتنظيمية، وإذا كان المستوى الفكري المتطور الذي يجيب على أسئلة العصر ضرورة، وإذا كانت الرؤية السياسية المتطورة هي الأخرى ضرورة تتكامل مع الأولى وتستنبط منها، فإن بنية تنظيمية متوافقة مع كل ذلك شرط لا غنى عنه، لأن التنظيم هو أداة تطبيق الفكر والسياسة على الواقع الملموس. والسؤال هو عن كيفية إيجاد تلك البنية التنظيمية العصرية التي تأخذ الواقع الملموس بكل تفاصيله بعين الاعتبار؟

إن شكل التنظيم ومحتواه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمهام الملقاة على عاتقه، والتي تتحدد بدورها انطلاقاً من المرجعية الفكرية والرؤية السياسية، ولأن رؤية اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين تنطلق من إن العالم والمنطقة والبلاد أمام منعطف تاريخي، وأن الآفاق فيه مفتوحة بشكل موضوعي أمام النهوض، فإن المهمة الأولى تكمن في وجود كادرات تمتلك هذه القناعة وتعمل على هذا الأساس، وهذا ما يتطلب إعلان القطيعة قولاً وفعلاً مع كل الأمراض التي ظهرت في الحركة تاريخياً، والتي كانت إحدى إفرازات مرحلة التراجع.

إن النموذج المطلوب هو نموذج «شيوعيّ العقيدة والوجدان».. ذلك النموذج الذي يتبلور ويتأطر من خلال الممارسة التي تحدث عملية فرز طبيعية ودائمة في صفوف الحزب، ففي فترة التقدم التي شهدها الحزب في العقود الخمسة الأولى من نضاله برزت كوادر شيوعية في مختلف مناطق البلاد وفي مختلف الشرائح الاجتماعية (عمال، فلاحين، مثقفين، طلبة.....) استطاعوا أن يقودوا نضالات جماهيرية، وأصبحوا قادة ميدان ونموذجاً أخلاقياً يضرب به المثل في الغيرية ونكران الذات، وتمثل الأخلاق الشيوعية كالصدق والبساطة والتواضع مع الرفاق والجماهير، والجرأة أمام العدو الطبقي، فاكتسبوا بذلك ثقة القواعد الحزبية العريضة، الأمر الذي تجلى في الانضباط الحزبي العالي لدى القواعد والثقة بالحزب وقياداته، والتسابق إلى تنفيذ المهام الحزبية. إن هؤلاء لم يكونوا خريجي مدارس وأكاديميات، وقسم هام منهم لم تكن لديه القدرة على التنظير والتفلسف، ولكنهم أثبتوا بالملموس أن لديهم شيئاً آخر يقدمونه للجماهير غير ما هو سائد في المجتمع سياسياً وأخلاقياً، بعكس فترة التراجع التي أفرزت بنية تنظيمية شوهت لدى الجماهير نموذج الإنسان الشيوعي، فبدلاً من التسابق إلى تنفيذ المهام النضالية دخلوا في سباق إلى نيل المكاسب والامتيازات، وبدلاً من نكران الذات سادت الأنانية، وحل التعالي والفوقية محل البساطة والتواضع مع القواعد الحزبية، واتسم الخطاب بالذرائعية وتبرير التراجع، واقتصرت الشجاعة على التخفي تحت عباءة ستالين والصراخ والخبط على الطاولة أو تقطيب الحاجبين مع الرفاق، أما أمام أعداء الحزب والطبقة فتخاذل وتملق، وتفشى مرض إلصاق التهم والتشهير بالرفاق دون أي وازع أخلاقي، فتحول مناضل الأمس إلى مرتد ومعادٍ للحزب، وبرز على السطح أبطال الأزمات الحزبية، وعمم نمط تنظيمي بالضد من المبادئ اللينينية، فإما أن تكون ضمن كتلة من الكتل أو تصبح هامشياً.. نعم إن كل مرحلة (التقدم، التراجع) أنتجت نمطاً معيناً من التنظيم رغم عدم اختلاف الاسم والشكل، وعلى هذا الأساس فإن أحد أهم الشروط لتطوير تجربة اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، وصولاً إلى بناء الحزب المنشود، هو معالجة أمراض مرحلة التراجع، إذا كانت تريد إعداد نفسها لالتقاط اللحظة التاريخية، وبالتالي أن تكون رقماً فاعلاً في المعادلة السياسية الوطنية.

- تبين التجربة التاريخية أنه أمام كل استحقاق سياسي كان يجابه الحزب، كانت ثمة أزمة حزبية داخلية، فتنتقل المعركة إلى داخل الجسم الحزبي بدل من الانخراط في مجابهة الاستحقاقات السياسية، وهذا الاستنتاج يمكن اعتباره حسب رأي كاتب هذه السطور غنيمة  حصل عليها الشيوعيون من تجربة الأزمة رغم كل مرارتها، وتجنباً لتكرار ذلك يجب عدم التهاون في مواجهة أي استحقاق نضالي يفرضه تطور الواقع، فالمهام الملموسة والممارسة النضالية هي التي تجنب أية بنية حزبية الأزمات، لا بل هي وليس غيرها ما يفتح أمام الحزب الآفاق للقيام بدوره.

- إن الممارسة النضالية هي التي يمكن أن تنتج التنظيم المناسب، سواء كان في الأوساط الاجتماعية التقليدية بالمعنى التاريخي، الفلاحية مثلاً، أو في الأوساط المدنية حيث تتفكك الروابط الاسرية والاجتماعية، وتتعمق الفردية والانعزالية، فلا يمكن وضع (راشيتات) جاهزة بل إن الوصفة المناسبة هي التي تأتي نتاج التجربة العملية، وهي وحدها القادرة على فرز قيادات جماهيرية وميدانية، ولاتكفي عملية تنميتهم فكرياً وسياسياً وتنظيمياً ورفع الحس النقدي لديهم، بل إن هذه القيادات من الممكن أن تظهر من قلب الجماهير عندما تعرف التحدث بلغتها، وتكون صادقة معها، وتضحي من أجل مصالحها، فلا معنى للتنمية الفكرية والسياسية والتنظيمية إذا لم تقترن بالروح الكفاحية، بل إن هذه القيادات من الممكن أن تردع عمليات التفكك، وتكون بمثابة ضمير جمعي لأية بنية اجتماعية، فالنزوع إلى الاجتماع والتآلف هي سمة الإنسان باعتباره كائناً اجتماعياً بطبيعته، وبالأخص في الظرف السياسي الراهن حيث تتوافق مصالح أغلبية المجتمع، وإن كان لم يتواجد حتى اليوم الحزب القادر على تجميع القوى الحية فيه.