نصوصيو الأمس.. عدميو اليوم

بداية، أتفق مع ما ورد في مشروع الموضوعات البرنامجية، وبخاصة ما ورد في الفقرة /1/ حول المرجعية الفكرية، وقد كان من أهم ما ورد فيها هو تشخيص الميلين المعرقلين لتطور الماركسية (العدمية والنصوصية).

إن انبعاث الجديد الحقيقي اليوم، القادر على إعادة الاعتبار إلى الفهم المادي للتاريخ الذي هو فهم علمي قادر على تفسير الواقع تفسيراً صحيحاً، وبالتالي على التحكم الواعي فيه وتغييره، لابد له أن يصطدم بأحد أطوار صعوده بهذين الميلين، وخصوصاً في ظل تراجع نقيضه الذي يعيش ما يعيشه من أزماته المختلفة.

 

وليس النقاش الذي دار على صفحات بعض الصحف الشيوعية مؤخراً إلا دليلاً على بلوغ ذلك الجديد الطور الذي تحتدم به معارك كهذه.

ربما لم يتسع المجال في تلك الفقرة من الموضوعات إلا لتحديد الخطوط العامة جداً بهذا الصدد، بما يدفع باتجاه انعتاق الفكر الماركسي من هذين الميلين، دون الدخول بتفاصيل سجالية لها حيز آخر تناقش فيه مثل هذه الصفحة، لذا وعبر هذه المداخلة سأحاول التوسع بهذا الموضوع.

سأدّعي في البداية أن تعافي الفكر الماركسي وصعوده مرهون بقدرته على الإنجاز وتغيير الواقع والتحكم الواعي فيه، وبما أن نجاح التجارب في التاريخ يقاس بالنتائج، فأنه في النصف الأول من القرن العشرين جرى التطوير الأخير عملياً في الفكر الماركسي على مستوى الحركة ككل، وبخاصة فكر الممارسة الذي استند إلى التجارب الغنية لثورة أكتوبر وما تلاها من الحرب الأهلية في الاتحاد السوفيتي وتجربة التجميع الزراعي والتصنيع الاشتراكي والانتصار الكبير على ألمانيا النازية. يومها استطاع الفكر الماركسي أن يهبط على الأرض إحدى هبوطاته النادرة في التاريخ، وهذا خلافاً لما هو سائد في أوساط بعض (المفكرين) الماركسيين وخصوصاً (العرب) الذين ما انفكوا يردون أزمة الفكر إلى تلك المرحلة بالذات، علماً أنه المرحلة الأخيرة في تاريخ الحركة التي شهدت فيها إنجازات حقيقية، ولم نشهد لاحقاً أية حالة مشابهة.

ومع بداية ستينيات القرن الماضي وبداية تراجع الحركة الثورية العالمية، ظهر الاتجاه النصوصي - في منطقتنا خصوصاً - ظهوراً واضحاً مستنداً إلى ريع السمعة للنموذج الاشتراكي آنذاك، فما كان إلا حاملاً للنص لا مطوراً له، فكيف يكون مدفوعاً لتطويره وهو منقطع عن واقعه بانتظار (الانتصارات) النهائية والكبرى للاشتراكية، كما كان سائداً في وعي تلك المرحلة؟.

ولكن مع انهيار منظومة البلدان الاشتراكية وتبدد الحلم وانكشاف الغطاء عن ذلك الاتجاه، هبطت أسهمه هبوطاً مفاجئاً على حساب انتعاش وجهه الآخر (التيار العدمي) الذي انبثق عملياً منه، حيث أمسى نصوصيو الأمس عدميي اليوم، ومن كان الوكيل الحصري لانتصار الشيوعية سابقاً أصبح يتحدث عن اليوتوبيا و(الوهم الجميل)، ومع ذلك بقي الاتجاه النصوصي حتى يومنا هذا موجوداً ومتقوقعاً على نفسه ومؤمناً بسحر النص وقدرته على صُنع المعجزات، وما كان هذان الاتجاهان (العدمي والنصوصي) إلا مكملين لبعضهما، ومعبرين عن التراجع الأقصى في تاريخ الحركة الثورية العالمية، على الرغم من التعارض الشكلي بينهما، حيث أن المنشأ الفلسفي لكلتا الظاهرتين واحد، وهذا ما أشارت إليه الموضوعات عندما طرحت مهمة اكتشاف وصياغة الثابت والمتغير في النظرية.

وإذا ناقشنا الموضوع من زاوية فلسفية، نجد أن واقع كون الحركة مطلقة لا ينفي وجود السكون النسبي، والعكس صحيح، أي أن وجود السكون النسبي لا ينفي صفة الحركة المطلقة. وينبغي النظر إلى هاتين المقولتين ليس بشكل منفصل، أي كل واحدة على حدة، بل بترابطهما الديالكتيكي، وهذا ما أشار إليه أنجلس حينما أكد أن التوازن النسبي ضروري لتمايز الظواهر المتحركة ووجودها. وهذا ينطبق على الفكر أيضاً بقدر ما ينطبق في الطبيعة، فالنظرة إلى الماركسية كعلم متجدد تعني معرفة الثابت والمتغير في عناصره كأي علم آخر، وعناصر العلم هي (المنهج والقوانين والفرضيات)، فالنظر إلى هذه العناصر من زاوية الحركة المطلقة فقط يعني الوقوع في العدمية، أما من زاوية السكون فيعني الوقوع في النصوصية.

إن المشترك ما بين العدمية والنصوصية هو صورية موقف كل منهما تجاه النتاجات النظرية الماركسية، فهي تمثل لكليهما نسخة من لون واحد، سوداء للعدميين وبيضاء للنصوصيين، والواقع أنه لا وجود لهذين اللونين في الفكر والسياسة.

إن عدم الوقوع في أحد الخطلين لا شك أنه يتطلب قدراً كبيراً من المعرفة العميقة بالفكر الماركسي أولاً، والاستفادة من التجارب الغنية للشيوعيين على مر التاريخ ثانياً، وليس عبر «إدانة الذات» والتاريخ المستمرة، أو عبر الانغلاق في أسوار الماضي  أو اجتراره.