بازار أوربي تركي على ورقة اللاجئين الإنسانية
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

بازار أوربي تركي على ورقة اللاجئين الإنسانية

الآلاف من اللاجئين ما زالوا عالقين على الحدود اليونانية المقدونية في العراء، أكثر من نصف هؤلاء من النساء والأطفال، يفترشون العراء والوحل، ويعيشون أقسى الظروف الإنسانية، معرضين للأمراض المتنوعة بسبب البرد ونقص الغذاء، وغياب الكثير من مقومات الحياة الضرورية.

 

 

كما ما زال البازار قائماً بين الاتحاد الأوربي وتركيا على ورقة اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين، بعيداً عن كل الادعاءات الإنسانية وحقوق الإنسان والقانون الدولي، وغيرها من العناوين التي صدعت رؤوس الناس، كما أغرت الكثيرين جاعلة «البحر طحينة» أمامهم، وذلك كله من أجل الحد من تدفق هؤلاء إلى أوربا، بمقابل بعض التعهدات لتركيا بخصوص انضمامها للاتحاد الأوربي، مع الإغداق بالأموال على شكل مساعدات.

أيام العبور الطويلة

المشاهد المصورة الآتية من الحدود المقدونية اليونانية تظهر بؤس الواقع المعاش من قبل اللاجئين وسط برك المياه والطين، مع التوقع بازدياد البؤس والشقاء يوماً بعد آخر، بظل استمرار إغلاق الحدود والنقص بالمواد الغذائية والإغاثية والطبية، مع التدني المستمر بدرجات الحرارة بهذا الموسم الشتائي البارد.

حالات من الاعتراض والصدام مع الشرطة تعبيراً عن الغضب واليأس سجلت على الحدود، حيث عبر اللاجئين هناك بالقول: «قرار الاتحاد الأوربي بإغلاق الحدود أمامنا ليس عادلاً وليس إنسانياً على الإطلاق، خاصة وأنه لا مكان آخر نذهب أو نأوي إليه»، كما قال أحدهم: «نحن أوراق لعب، لا أحد ينظر إلينا على أننا أناس عاديون، لدينا أحلامنا وحياتنا، كما لدينا أطفال، وبالمقابل يتم التعامل معنا كأوراق مالية وأعداد فقط»، وآخر قال: «نحن نشعر باليأس، وبالغضب، بمقابل إغلاق باب الأمل بفتح الحدود أمامنا»، كذلك أشار أحدهم إلى قلقه من طول رحلة التعب والإرهاق التي يتخوف من مغبتها كما حال من سبقوه، من مقدونيا ثم صربيا ثم كرواتيا، رحلة تطول بعذاباتها وآلامها، حيث لا نوم ولا طعام مع الكثير من القلق والخوف، بحال اتبعوا طرقاً وممرات أخرى للعبور عن طريق المهربين.

يشار إلى أنه ما زالت أعداد اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين بتزايد، كما ما زالت تسجل حالات الموت غرقاً قبالة السواحل التركية نتيجة غرق القوارب المطاطية، حيث من المعلوم أن تزايد تدفق اللاجئين والهجرة غير الشرعية يرتبط بتزايد تدهور الأوضاع الإنسانية والأمنية والاقتصادية، كما يترافق مع تحسن الأحوال الجوية وانعكاسها بشكل خاص على البحار وحركة الأمواج. ويشكل السوريون ما يعادل ثلث تعداد المهاجرين غير الشرعيين إلى الاتحاد الأوربي خلال الأعوام المنصرمة، نتيجة الحرب والأزمة، حسب إحصاءات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

تجارة فاشية سوداء بغطاء دولي

كما لا يغيب عن ذهننا التجارات الفاشية السوداء، التي رافقت وترافق اللاجئين وأزماتهم الإنسانية، اعتباراً من المهربين الساعين لابتزاز وسرقة اللاجئين، مستغلين حاجاتهم وصعوباتهم، ليزيدوا من معاناتهم وألمهم، مروراً بتجارة الأعضاء البشرية التي راجت على حساب معاناة هؤلاء، وليس انتهاءً بقطاع الطرق، الذين يسلبون ويقتلون، على الحدود وفي الغابات الأوربية. 

وهؤلاء كلهم محميون دولياً، حيث أصبحوا شبكات مافيوية فاشية عاملة ومتكاملة، بتغطية مباشرة وغير مباشرة من بعض الدول، علناً أو بشكل غير علني، انسجاماً مع سياسات رأس المال الفاشي العالمي، الساعي عبثاً إلى الحفاظ على أرباحه، واستمرار نفوذه، بأقذر الوسائل والأساليب والأدوات، والتي منها داعش الإرهابية، على سبيل المثال لا الحصر.

اشتراطات تركية وابتزاز

الحكومة التركية تتعامل مع قضايا اللاجئين ومعاناتهم ومآسيهم كورقة ضغط من أجل تحسين شروطها التفاوضية مع الاتحاد الأوربي للانضمام إليه، كما تستخدمهم في عملية ابتزاز مباشر من خلال المطالبة بزيادة المساعدات من الاتحاد الأوربي، حيث لم تعد تكتفي بـ 3 مليار يورو التي تعهد بها الاتحاد الأوربي كمساعدة للاجئين في تركيا، بل بدأت بالمطالبة بمضاعفة هذا المبلغ ليصل إلى 6 مليار يورو، على شكل مقترح تركي جديد يتضمن أيضاً طلب رفع تأشيرة الدخول بالنسبة للأتراك من قبل الاتحاد الأوربي اعتباراً من حزيران القادم، بمقابل تعهد تركي بوقف تدفق اللاجئين إلى أوربا، واستعدادها لاستعادة اللاجئين السوريين الذين تم رفض منحهم حق اللجوء إلى أوربا، وغيرها من التعهدات التي لا تمت لكل الادعاءات التركية إعلامياً بصلة، من حيث موقفها الإنساني وغيره من المواقف، التي تضعها كلها في سلة مفاوضاتها وبازاراتها، ليتضح عملياً وبالملموس جزء من الدور التركي المتاجر بالأزمة والحرب السورية.

مشيرين إلى أن تركيا ما زالت تسعى يائسة من خلال ورقة اللاجئين الإنسانية إلى الضغط على أوربا وأمريكا من أجل إنشاء مدينة لاستيعاب النازحين السوريين، والتعهد بتجهيز البنى التحتية لتلك المدينة، عبر المساعدات الأوربية والأمريكية طبعاً، وذلك بالأراضي السورية على الحدود التركية، في محاولة لاستعادة اقتراحها بمنطقة حظر جوي تحت مسمى الممر الإنساني والمدينة المقترحة، بغاية استمرار استنزافها لأزمتنا إلى أطول فترة زمنية ممكنة.

كذب ومبالغة

بالمقابل فإن تركيا تكذب وتبالغ عملياً في عدد اللاجئين من أجل الحصول على المزيد من المساعدات من الاتحاد الأوربي، كما من أجل المزيد من الابتزاز عبر البازارات التي تعقدها، حيث ادعت بارتفاع عدد اللاجئين لديها من 1.5 مليون إلى 2.5 مليون خلال أقل من عام. علماً أن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قد سجلت 4.6 مليون لاجئ سوري في بلدان الجوار السوري، بمقابل 3.3 مليون عام 2015، ليظهر هذا الادعاء وكأن تركيا وحدها من دول الجوار التي استقطبت هذه الزيادة، مع الأخذ بعين الاعتبار الانخفاض الكلي لتعداد اللاجئين في بلدان الجوار خلال هذا العام، علماً أنه تم تسجيل عبور 1.5 مليون مهاجر إلى الاتحاد الأوربي خلال عام 2015، أكثر من 850 ألف منهم كانوا بحراً بين تركيا واليونان، وإجمالي عدد طالبي اللجوء في الاتحاد الأوربي خلال عام 2015 من السوريين بلغ 897 ألفاً.

آخذين بعين الاعتبار أن تركيا بالنسبة لغالبية اللاجئين تعتبر مستقراً مؤقتاً لحين العودة، أو ممر عبور إلى الاتحاد الأوربي، وليست بحال من الأحوال ملاذاً لهؤلاء، أو مستقراً مستقبلياً نهائياً لهم.

الصفقة الأوربية

في الجانب الآخر يتضح بالمقابل ذاك الاتجار بالقضايا الإنسانية، وخاصة الحرب والأزمة السورية، من قبل الأوربيين، حيث صرح رئيس المجلس الأوربي «دونالد تاسك» في وقت سابق، قائلاً: «انتهت أيام الهجرة غير النظامية إلى أوربا»، وذلك في معرض حديثه عن اتفاق القادة الأوربيين مع الجانب التركي حول إغلاق طرق غرب البلقان أمام اللاجئين، كما لم يخف في حديثه الإجراءات التي ستتم حيال تأشيرات الدخول للأتراك إلى أوربا قائلاً: «سنسرع إجراءات رفع التأشيرات عن الأتراك لكن دون خفض المعايير»، ما يشير بشكل مباشر إلى الصفقة التركية الأوربية عبر ورقة اللاجئين الإنسانية.

الوجه الأسود بمقابل رشاً

كما يقدم الاتحاد الأوربي مجموعة من الإعانات والمساعدات لدول جواره المنضمة أو غير المنضمة إليه، «صربيا والمجر وسلوفينيا» أو «التشيك وبولندا»، وذلك بشرط المراقبة الفعالة للحدود والالتزام باستعادة المهاجرين غير الشرعيين.

تناقض واضح بين المعلن والمسوق إعلامياً، وبين الاتفاقات المبرمة والرشا المقدمة على شكل إعانات ومساعدات لهذه الدولة أو تلك، حيث تتبع دول الاتحاد الأوربي سياسة «الوجه الأبيض»، بمقابل قبول تلك الدول أن تكون «الوجه الأسود»، لقاء بعض التمويل والرشا والمساعدات، وذلك كله اتجاراً مباشراً ودون مواربة بالقضايا الإنسانية، بعيداً عن القوانين والأعراف الدولية كلها، كله وما تدعيه دول الاتحاد الأوربي عن تمسكها ودفاعها المستميت عن الإنسان وحقوقه، حيث تغض الطرف عن الممارسات غير الإنسانية التي تقوم بها تلك الدول، عبر أجهزتها، في قمع واضطهاد العالقين على حدودها من المهاجرين، بل وتمولهم من أجل ذلك.

وتنفيذاً للاتفاق الأوربي التركي بدأت السلطات اليونانية بدورها بتسليم المهاجرين، الواصلين من تركيا إليها، إلى السلطات التركية، وذلك على أثر إغلاق دول البلقان لحدودها أمام اللاجئين، وتخوفها من تزايد أعداد هؤلاء على أراضيها، في أول تنفيذ عملي لهذا الاتفاق.

معالجة الجذور هي الحل

والحال كذلك، فإن الكارثة الإنسانية السورية، وأزمة اللاجئين على الحدود الأوربية، أو في الداخل التركي ودول الجوار، لن يتم حلها ومعالجتها بهذه الطرق والأساليب، بل على العكس تماماً، فإن ما يجري هو الاتجار المباشر بهذه الأزمات، لحسابات دولية وإقليمية، بغاية استمرارها لاستنزاف أكثر ما يمكن استنزافه عبرها. 

على ذلك فإنه إن لم تعالج الأزمة السورية بجذورها الحقيقية وتداعياتها المتعددة والمتشابكة وبشكل نهائي، فإن دولاً مثل تركيا أو الاتحاد الأوربي وغيرها، ستستمر بالسعي لاستنزاف أزمتنا واستنزافنا حتى القطرة الأخيرة من إنسانيتنا ودمنا.