(الشرق العظيم) من وعي آليات التجزئة والتبعية إلى آفاق التغير والاختراق
خالد عليوي خالد عليوي

(الشرق العظيم) من وعي آليات التجزئة والتبعية إلى آفاق التغير والاختراق

رغم تموضع مشروع الشرق العظيم في حيز جيوسياسي محدد، لكن رؤيته مفتوحة على إمكانات لا متناهية، تتركز في محاولة صياغة نظرية تستمد حيويتها من واقع موضوعي وظرف حالي مأزوم غارق في لجة تناقضات إشكالية، بحيث يؤدي فحص الإشكاليات إلى استنطاق الماضي استنطاقاً محكماً، بهدف وعي الآليات التي أوقعت شعوب المنطقة في كمين تاريخي محكم بين تقاطع نيران حدي التجزئة والتبعية، وبالتالي الإمساك باللحظة التاريخية التي تؤسس لمسارات جديدة تطلق العنان لتحولات جذرية 

آليات التجزئة والتبعية

منذ نشأة كيانات سايكس بيكو إثر تنظيم القوى الأوربية المنتصرة للحقل الجيوسياسي لمنطقة الشرق العظيم، فقد تفاعلت مجموعة من العوامل الداخلية مع العامل الخارجي، وأدت إلى وقوع المنطقة بين فكي تبعية مزدوجة:
تبعية ماضوية تتنكر في لبوسات دينية ومذهبية وتدور في حلقة قدرية مفرغة ،وتقوم باحتلال العقول المهزومة بفعل سياسات التهميش السياسي والاقتصادي.
تبعية للنظام الرأسمالي المهيمن والذي لعب دوراً محورياً في تجديد إنتاج التجزئة والتبعية على عدة مستويات:
المستوى الإيديولوجي: إن علاقة الهيمنة / التبعية لم تجلب للمنطقة سوى تكريس ( ومنة) الكيان، وتكبيل الحيوية الحضارية لشعوب المنطقة، والتسليم بواقع أزلية كيانات التجزئة، والتسليم أيضاً بشرعية الكيان الصهيوني عبر منطق «التسوية الشاملة» للصراع، وبالتالي تحويل الكيان الهزيل إلى أيقونة تمجد الواحدية وتقمع التعددية، وتقيم هيكلاً كارزمياً مقدساً يدعي البراءة ويدين الآخر والمختلف.
المستوى السياسي: عزل جهاز الدولة عن الأجهزة المماثلة في الكيانات الأخرى وقمع أي توجه وحدوي. 
المستوى الاقتصادي: تفكيك القطاعات وتجزئة مسارات التنمية حتى أصبحت تنمية للتخلف، وتباين المصالح بين الكيانات وإدماجها في دورة الإنتاج الملحقة بالمصالح الدولية المهيمنة. 
المستوى الثقافي: تجهيز النخب على أساس النمط الثقافي المهيمن وإدخالها في حالة عزلة وانقطاع وضعتها في علاقة غير سوية مع مجتمعاتها.
وفي الوقت الذي استخدم فيه المخلب الصهيوني لضرب أية نهضة تحررية وتحديثية، كانت القوى المهيمنة على مجلس الأمن (أمريكا - إنكلترا - فرنسا ) تعمل على تطويع القانون الدولي ليصبح قانوناً أوليغارشياً يحمي مصالحها الإمبريالية، في حين كانت الثروات الاستراتيجية للمنطقة تصادر أو تنهب من خلال أكبر عملية سطو مقنن في التاريخ، مع كل إسقاطاتها الموشورية السياسية والإيديولوجية التي أتاحت للأنظمة البترو دولارية الأكثر رجعية وتخلفاً، والأكثر استتباعاً لرأس المال المالي الإجرامي، أن تتحكم بمصائر شعوب المنطقة، وأن ترتهن لحسابها الخاص الغالبية العظمى من النخب السياسية والفكرية والاعلامية.

أهمية التغيير وضرورة التحالفات

إذا كان التبعثر والتشتت والانسحاق طبيعة القوى وطبيعة المرحلة الماضية، باعتبارها إحدى انعكاسات آلية التجزئة والتبعية، فإن الوعي الدقيق لقوانين وآليات التجزئة والتبعية، تمكن من فهم جوهر مشكلة التأزم الإقليمي الحالي، والمتمثل في طبيعة الانظمة القائمة، وإن حل هذه المشكلة، وبقية المشاكل الأخرى، مرتبط اليوم أكثر من أي وقت آخر بتغيير هذه الأنظمة، ففي ظل الفضاء القديم، وفي إطار التوزيع الكياني الضيق للقوى، لم يكن من الممكن إحراز أي تقدم يذكر، فعلى امتداد المرحلة الماضية، لم تجلب نخب مرحلة التراجع والهزائم للمنطقة، إلا النزاعات والكوارث والأزمات، لكن في الوقت الراهن ورغم مظاهر البؤس والانهيار، وفي ظل حركة المتغيرات، فإن شعوب المنطقة تمر بمرحلة مخاض وكمون مؤقت في انتظار تبلور قوى التغير السلمي الجذري، والتي يتوقف عليها خلق وتطوير أداة فاعلة لحركات التغيير تنتمي فكراً وممارسة إلى كل ما هو تقدمي، وهذا يستلزم ضرورة التقدم لتحالف القوى على أسس عقلانية تكرس كإطار مفاهيمي - مرجعي لصيرورة مستمرة وحركية اجتماعية وقيمة متضاعفة، تحمل في ثناياها مركباً معرفياً جدلياً وتحديثياً، يجمع بين التواصل والانقطاع، لأن كل بنية جديدة هي إضافة كيفية إلى الحلزون التطوري الصاعد للمنطقة، فتشكل نسقاً أكثر شمولية وفاعلية، وبهذا المعنى التاريخي الجدلي التقدمي يدخل التغيير في صلب عملية بناء الشرق العظيم.

آفاق التغيير والاختراق

إن دراسة المقدمات الممهدة لعملية الاختراق ـ أي،إمكانية تجاوز حدود علاقة المركز مع الأطراف ـ تستوجب دراسة بعدين: الأول يرتكز على حركة المتغيرات. والثاني يتمحور حول المنظومة الداخلية للتشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية المشخصة (الشرق العظيم). وفي مجال الحديث عن حركة المتغيرات يمكن التركيز على مؤشر هام يتمثل في الثورة التقنية (الموجه الثالثة) التي تولد عنها تغييرات ثورية شملت إسقاطاتها الموشورية كل المجالات، وهي في نزوع دائم إلى التخصص والشمولية، وخاصة تكنولوجيا الالكترونيات الدقيقة وتكنولوجيا الفضاء، والتكنولوجيات الحيوية، والتكنولوجيا النووية ..
صحيح أن هيكل السيطرة التكنولوجية العالمية الحالي يتسم باحتكار القلة (الشمال) والذي يؤدي إلى تهميش دور الأطراف (الجنوب) يدعو إلى الإحباط، ولكن في ظل التراجع الأمريكي المستمر وتفلت قبضة المنظومة الغربية عن المنطقة، وظهور أقطاب دولية جديدة (بريكس)، وتثبيت حالة التوازن الدولي المتحرك، وهزائم المشروع الصهيوني، وتوقيع الاتفاق النووي الإيراني - الأممي-  وارتفاع منسوب الحراك الشعبي وانتفاضات «الخبز والكرامة» في المنطقة، كل هذه المتغيرات مضافاً إليها القلق الخلاق الذي يدفع شعوب شرق المتوسط إلى نفض غبار التجزئة والتبعية، ومع توفر إرادة التغيير لدى نخب الفضاء الجديد الصاعد، والإمكانيات الكبيرة للتطور ممثلة في معطيات الموارد الطبيعية والبشرية والمالية.. كل هذه العوامل تمهد السبيل أمام إمكانية الاختراق والمنسجمة مع النزوع الكوني نحو بناء نظام عالمي جديد متنوع قائم على تعددية المراكز المؤثرة والعلاقات المتكافئة والتي تقدم المسوغات الواقعية لمشروع حل مركب لشعوب المنطقة عماده الاندماج الطوعي مع الاعتراف المتبادل بالحقوق الثقافية واللغوية، وخوض معركة رفع منسوب الحريات السياسية والنقابية، واجتراح معادلة للتقدم تنطوي على عناصر متعددة: سياسية وأيديولوجية واقتصادية واجتماعية وفكرية تتفاعل مع خصوصية التشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية عبر تلاقح جملة هذه العناصر التي تستمد منها الخصوصية المعنية ثباتها النسبي، على الرغم من الحركة الداخلية المستمرة على صعيد كل عنصر، أو على صعيد العلاقات الداخلية التي تشد مختلف العناصر إلى بعضها.