افتتاحية قاسيون 627 : الانعطافات المفاجئة.. ومستقبل «القوى المتفاجئة»

افتتاحية قاسيون 627 : الانعطافات المفاجئة.. ومستقبل «القوى المتفاجئة»

يمكن تلخيص ما جري ويجري على الساحات الدولية والإقليمية والداخلية السورية خلال الأسابيع القليلة الماضية، بأنه بداية التبلور السياسي الملموس للتوازن الدولي الجديد الذي مضى على تكونه الواقعي بالمعاني الاقتصادية والعسكرية والمعرفية أكثر من سنة على أقل تقدير

رغم ذلك فإن هذا التوازن لم يبدأ بفرض نفسه واقعاً سياسياً إلا في الآونة الأخيرة فقط، الأمر الذي ينعكس، في ظاهره، كجملة من الانعطافات الفجائية، وهي ليست فجائيةً في جوهرها، لكنها تبدو كذلك بالنسبة لتلك القوى التي لم تستقرأ التوازن قبل حدوثه، ولم تستطع حتى فهم أبعاده ونتائجه الإقليمية والداخلية في المرحلة التي غدا فيها شديد الوضوح..

إنّ القصور المعرفي الذي أنتج تفاجؤ «القوى المتفاجئة»، ليس السبب الوحيد وراء سلسلة الصدمات التي تعيشها تلك القوى وتجبرها على تعديل مواقفها المسبقة ونسفها أحياناً، بل تلعب أيضاً بنيتها ومصالحها دوراً أساسياً في ممانعتها تصديق الواقع الجديد والتعامل الجدي معه.. فأحلام القوى المتفقة ضمناً على استمرار الصراع في سورية، تتوزع بين الدخول على دبابة الخارج، وعودة الوضع إلى ما كان عليه قبل ثلاث سنوات، وكلا الأمرين وهمٌ، لا مكان له تحت الشمس..

وبعيداً عن الغوص في الأسباب التفصيلية التي تدفع «القوى المتفاجئة» لممانعة الواقع الجديد، تلك الممانعة التي تمّ كسر أول درجاتها فعلياً بإقرار الجميع بالحل السياسي طريقاً وبجنيف-2 بدايةً لذلك الطريق، فإنّ السبب الجوهري لممانعة الواقع الجديد هو رعب هذه القوى من مستقبلها.. إنّ تلك القوى التي عبأت الناس طوال الأزمة لتحقيق ما لا يمكن تحقيقه، ستحاسب من جماهيرها أولاً لدى إقرارها باستحالة تحقيق الشعارات المرفوعة، ولدى انعطافها الإجباري المفاجئ باتجاه أهداف أخرى وشعارات أخرى. عند هذا الحد يمكن فهم التخبط الجاري في الأوساط المتشددة، وليس أدلّ على ذلك من كلمات سعود الفيصل في مؤتمره الصحفي المشترك مع جون كيري، حيث لم يغير شيئاً من الموقف السعودي في مجمل ما قاله ضمن المؤتمر، لكّنه وفي إجابته على سؤال صحيفة سعودية عن حضور ائتلاف الدوحة لمؤتمر جنيف قلب الموقف كلّه حين ردّ بالإيجاب!

إنّ نظرة أبعد، تكشف أنّ مؤتمر «جنيف-2» الذي أصبح بحكم الأمر الواقع، وعلى أهميته القصوى في نقل مركز ثقل الصراع الجاري من الخارج إلى الداخل السوري عبر وقفٍ دوليٍ للتدخلات الخارجية وتخفيضٍ تدريجي لمستوى العنف وإطلاقٍ للعملية السياسية، لن يكون أصعب المشكلات السورية، فممانعة قوى العالم القديم دوليةً وإقليمية وداخلية لن تنتهي بمجرد دخول المرحلة الانتقالية، فقوى الفساد الكبير ستبحث عن تحالفاتها الجديدة متجاوزةً الخطوط الحمراء الوطنية بشكلٍ علني أو شبه علني لتلتقي موضوعياً مع الأعداء التاريخيين للشعب السوري، الأمر الذي يتطلب أوسع التحالفات الوطنية الحقيقية التي تتجاوز بعمقها الانقسامات التي يحاول فرضها الفضاء السياسي القديم، والتي تظهر بأشكال متعددة طائفية وقومية وعشائرية إضافةً إلى الانقسام الثانوي بين «معارضين» و«موالين»، تحالف يضغط لتذليل عقبات جنيف ويعد العدة للمعارك اللاحقة على شكل سورية الجديدة وتوجهاتها الوطنية والاقتصادية-الاجتماعية والديمقراطية.