جنيف2 والمسؤولية الوطنية
نسيب عبد الله نسيب عبد الله

جنيف2 والمسؤولية الوطنية

إنّ أية رؤية لحل الأزمة السورية خارج المؤتمر الدولي (جنيف2) لم تعد تحتمل أن تكون مجرد مشكلة معرفية عند الأطراف السورية المكابرة في حضوره، بل بات يجب أن ينظر إلى المسألة من باب المسؤولية الوطنية، في ظل التفاقم المرعب والمأساوي للكلفة الإنسانية الباهظة والمستمرة الناجمة عن استمرار الأزمة السورية

مراحل الحل موضوعياً

أهمية وقف التدخل الخارجي كخطوة أولى وضرورية، بتوافق دولي ملزم لجميع الأطراف الإقليمية والدولية ذات العلاقة شرط أولي وضروري لأنّنا هنا أمام حالة لا يمكن فيها الحل الناجز للتناقض الداخلي قبل حل التناقض الخارجي. فتعقيد هذه الأزمة وتركيبها موضوعياً هو أحد أسباب ضعف قدرة البعض حتى بافتراض حسن نواياه عن استيعابها، ذلك أنها مسألة جدلية تتطلب المرونة الكافية لفهم أنّ المرحلة الأولى في حلّ التناقض الخارجي مع الغزاة الأجانب القادمين من أصقاع الأرض وخلف البحار إلى الداخل السوري، يتطلب أمرين، على مستويين، أو مرحلتين، الأولى توافقات وتعهدات وقرارات دولية أممية ملزمة لجميع الأطراف الدولية والإقليمة ذات الصلة، فتوقف تدفق الغزاة وأسلحتهم وتمويلهم من الخارج، هو شرط أول ضروري ولازم ولكنه لن يكون كافياً بعد لهزيمة خلاياهم وتنظيماتهم الفعالة الموجودة على تراب البلاد، إلا بعد تحقيق الشرط الثاني، الوصول إلى  نوع من الحد الأدنى من التوافقات والتعهدات الداخلية بين السوريين من أجل وحدة وتماسك الداخل، كلّ الداخل السوري، بقواه الشعبية والسياسية الموالية والمعارضة ضدّ العدو المشترك. جزء أساسي من هذه التوافقات يجب أن ينص على تحمل  كل من الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، والمعارضة وتنظيماتها، وكل تنظيمات وفعاليات المجتمع والأحزاب والقوى السياسية المختلفة، المسؤولية المشتركة من أجل تعهد كل منهم بالامتناع عن ممارسة العنف والاعتقال والاختطاف والتهجير والتدمير، أو كل ما من شأنه مفاقمة الوضع الإنساني، والالتزام بتطبيق مفردات المصالحة الوطنية المعروفة بين السوريين أنفسهم. ولكن هذه المرحلة الثانية بالذات هي مهمة استثنائية بسبب تعدد الأطراف التي يفترض أن تنفذها واختلافها، ولذلك بالذات لا يمكن أن تنفذها بشكل ناجز إلا حكومة وحدة وطنية شاملة وواسعة الصلاحيات، ائتلافية بين جميع الأطراف. إنّ هاتين الضرورتين أو المرحلتين هما على الأقل ما يفترض ويجب على المؤتمر الدولي (جنيف2) أن يثبتهما ويلزم جميع الأطراف بهما، لكي يكون بداية ناجحة لحلّ الأزمة السورية. وهو بإنجاز ذلك يفتح الباب تلقائياً للمرحلة الثالثة الضرورية التي لا يمكن القفز إليها دون المرور بأول مرحلتين، ألا وهي مرحلة الحوار السوري-السوري الداخلي الحقيقي والواسع من أجل وضع الأساس التشريعي الدستوري والقانوني والانتخابي الجديد الذي سيرسم أسس معالم الحياة السياسية والاقتصادية-الاجتماعية والديمقراطية الجديدة في البلاد، أي الذي سيضع الإطار السلمي الذي سيجري ضمنه الصراع السياسي بين التناقضات الداخلية التي ستظل موجودة في البلاد وسيكون ممكناً عندئذٍ حلها بطريقة بناءة.

الموقف من جنيف2 كمسؤولية وطنية

بالاستناد إلى الشروط الثلاث الموضوعية الضرورية والمتعاقبة والمترابطة المذكورة آنفاً كقانون لحل الأزمة السورية، وبالنظر إلى أول هذه الشروط، الذي هو أول مهمة أمام مؤتمر جنيف، أي «وقف جميع أشكال التدخل الخارجي» يمكن المناقشة من باب سياسي وأخلاقي وإنساني في جميع المواقف الرافضة أو المعاندة أو المترددة في المشاركة في جنيف2، سواء صراحة، أو عبر تمويه ذلك بطلب شروط مسبقة أياً كان نوعها (تنحي، تسليم سلطة، استسلام عسكري، إلخ..) من المتشددين في أي من الطرفين، باعتبار أنّها تؤدي بالنتيجة العملية، ومهما كانت النواياً، إلى استمرار التدخل الخارجي وإرهاب الغزاة الأجانب. ومن الواضح أن متابعة الاستنتاج إلى نهايته يكشف لنا أنّ ذلك يعني أنّ من لا يسارع إلى جنيف2 ممن يتحدثون باسم «النظام» ودعم الجيش العربي السوري، وحماية مؤسسات الدولة، إنما يقترفون خطأً جسيماً يقود إلى استمرار إنهاك الجيش والشعب وتدمير المؤسسات من قبل «داعش» و«النصرة» وأضرابهما. ومن يفعل ذلك باسم «المعارضة والثورة» وحماية الشعب وانتفاضته، قد لا يغتفر له هذا الخطأ الذي سيترك شعبه نهباً للإرهاب والموت رصاصاً وجوعاً وحصاراً باستمرار الأزمة. بالمثل نرى أن رافضي جنيف2 إنما يرفضون ضمناً تشكيل حكومة وحدة وطنية قادرة على حلّ المشكلات الآنية الإنسانية المستعجلة للشعب وتفعيل المصالحة الوطنية. أي يقودون عملياً نحو استمرار الاقتتال السوري-السوري الداخلي والاختطاف والاعتقال والحصار الداخلي. ورافضي جنيف2 في نهاية المطاف، مهما نادوا بالحرص على «السيادة الوطنية» و«مستقبل الوطن والشعب» من جهة، أو الحرص على «التغيير الديمقراطي والحرية ..إلخ»، بعدم حضورهم المؤتمر يتنصلون من مسؤولية إنجاز المرحلة الثالثة اللاحقة التي يفترض أن نصل إليها عبر بوابة جنيف2، وكأنهم لا يريدون تغيير النظام رغم مناداتهم بعكس ذلك، فما بالك بالتغيير الجذري ، الذي لا يمكن خلق شروطه الذاتية بالاستفادة من الشروط الموضوعية الموجودة للحالة الراهنة وتطويرها إلا عبر شلال الإجراءات الذي سيبدأ جنيف2 بهدم الطوبة الأولى في جدار سدّ الأزمة الذي يحتجزها.