إفتتاحية قاسيون 786: تَرِكة إدارة أم تَرِكة أزمة؟

إفتتاحية قاسيون 786: تَرِكة إدارة أم تَرِكة أزمة؟

يبدو أن التوتر والتوتير الأمريكيين، في الداخل والخارج الأمريكي على حد سواء، سيصلان إلى ذرا نوعية جديدة خلال الفترة الفاصلة بين إدارتين في البيت الأبيض، ومردّ ذلك بالمعنى المباشر، هو المحاولات الواضحة من الإدارة المنتهية ولايتها توريث الإدارة الجديدة سياساتها القائمة إلى الآن، كاملة، وتكبيلها مسبقاً بتَرِكَتها، دون زيادة أو نقصان، إلا بما تمليه التطورات اللاحقة ذاتها.

نقاط التوتير الرئيسية التي تحاول إدارة أوباما، ومن خلفها، إبقاءها تتلخص مفصلياً في مسألتين، أولاهما: علاقة الولايات المتحدة بروسيا، وثانيهما: علاقة أوربا بروسيا.

أمريكياً: تحاول «إدارة أوباما» بأقصى ما تستطيعه الإبقاء على بؤر التوتر العالمية، بما فيها مع موسكو، مفتوحة ومشتعلة وقابلة للتوسع والانتشار إلى أطول فترة ممكنة، استكمالاً للنهج القائم وتثبيتاً له مع الإدارة اللاحقة، بالتوازي مع مفاقمة ملفات تهدد الإدارة الجديدة بعدم إمكانية استمرارها، من خلال طرح قضايا غير مسبوقة، مثل: «حجم الانقسام الداخلي الأمريكي» و«القدرة على الحفاظ على وحدة الولايات المتحدة» و«الانتقال السلس للسلطة فيها»، و«انفصال كاليفورنيا». وإذا كان من المبكر معرفة ما الذي ستفعله الإدارة الجديدة بالملفات الداخلية، فما يمكن استنتاجه اليوم بخصوص بؤر التوتر الدولية هو أن الرئيس المنتخب قد لا يكون بالضرورة ضد نهج «سلفه» بخصوصها بنيوياً وجوهرياً، ولكنه في إطار التناقض مع روسيا، وإدارته لهذا الصراع بطريقة أخرى، سيعمل على تقليص بؤر التوتر، وربما إطفاء بعضها، آخذاً بعين الاعتبار ضرورات الانسحاب الأمريكي العسكري المباشر من مناطق العالم المختلفة، نتيجة لتضخم فاتورة الحروب والمصاريف العسكرية الأمريكية الخارجية بانعكاساتها المالية والاقتصادية والتنموية الداخلية السلبية، ودائماً على خلفية الأزمة الرأسمالية المتفاقمة، وتحديداً في عقر دارها الأمريكي. فإذا كان ترامب بصدد التخلص من تلك الفاتورة وتبعاتها، فسيكون عليه التخلص من السياسات الخارجية التي يستدعيها منطق الحروب والعسكرة، تجاه دول العالم، بما فيها روسيا.    

أوربياً: تحاول «إدارة أوباما» الحفاظ على الحلفاء الذين ينفذون السياسات الأمريكية بولاء خالص، بما يحافظ على «الاشتباك الأوربي» مع موسكو، وبما يكبل الإدارة الأمريكية اللاحقة بواقع هذا الاشتباك وتداعياته مسبقاً، وتحديداً عبر استخدام حكومات شرق أوربا، التي أصبحت منذ تسعينات القرن الماضي مُؤتمِرةً على نحو مباشر من واشنطن. ويترافق ذلك مع محاولات تكريس «رُهاب روسيا» بطريقة تثير السخرية: فواشنطن والناتو يتمددان باتجاه روسيا، ويصوران ردود أفعالها بأنها «أعمال عدوانية» ينبغي مواجهتها..!

غير أن المفارقة تكمن في أن الأمور، على الأرض، في أوربا ذاتها تسير في اتجاه مغاير. فالحكومات والإدارات الأوربية الموالية لواشنطن مهددة بالسقوط، تحت تأثير الأزمة الرأسمالية المتفاقمة، والنتائج العملية في الداخل الأوربي لسياسات هذه الإدارات، مقابل تبلور حقيقة المصالح الأوربية العميقة التي تتلاقى مع المشروع الأوراسي، موضوعياً.

ويضاف إلى ذلك بالمعنى العميق، الحقيقة التي تواجه الإدارتين الأمريكيتين، الحالية والجديدة، وأية إدارة لاحقة على المدى المنظور، وهي: أن سياسات الهيمنة العسكرية نشأت أساساً لتخديم الهيمنة الاقتصادية. ولكن إذا كانت وقائع اليوم تقول أن هذه الأخيرة لم تعد متاحة، فستستمر الأولى بالتحول إلى المحدودية وانسداد الأفق.

ومع انغلاق الأبواب تباعاً، يصبح المخرج الوحيد، مرحلياً، أمام أية إدارة أمريكية هو الانكفاء والتراجع النسبي المطرد، والتماهي مع ميزان القوى العالمي المتجلي حالياً، بما يتناسب والحجم الأمريكي الحقيقي وليس المضخم. وهذا يستدعي ضمناً إطفاء بؤر التوتر، بما فيها المأساة السورية، على اعتبار أن أزمة واشنطن الحقيقية هي ليست سياسات «إرادوية» يراد تورثيها، بمقدار ماهي عجوزات عن التعامل مع المفرزات الموضوعية للأزمة الرأسمالية الشاملة.