افتتاحية قاسيون 676: الليبرالية «المجنونة» و«عقلنة» الدعم..!

افتتاحية قاسيون 676: الليبرالية «المجنونة» و«عقلنة» الدعم..!

 

تحتل الأحداث الميدانية القتالية في سورية المساحة الأكبر ضمن اللوحة السياسية والإعلامية. ورغم أنّ لهذا الأمر ما يبرره جزئياً، إلّا أنّ جملة القرارات الاقتصادية التي «مررتها» الحكومة السورية خلسة وعلانية خلال الأشهر القليلة الماضية، في قلب الأزمة، من تجاوز «الخطوط الحمراء» لسعر الخبز وأسعار السكر والرز التموينيين، إلى رفع أسعار الماء والكهرباء، وصولاً إلى رفع أسعار

لمحروقات مؤخراً، لا تقل خطورة البتة عن الأحداث الميدانية، بل توازيها، وتتجاوزها في بعض الأحيان. وإن هذه القرارات تؤكد أن رفع الدعم يشكل هدفاً ثابتاً ومستمراً لدى الحكومات السورية وصولاً إلى إلغائه كلياً، كونها لا تستطيع تحمل تبعات رفعه دفعة واحدة.  

إن القرارات الاقتصادية في جميع الأحوال هي قرارات سياسية في عمقها ونتائجها، الأمر الذي يترتب عليه مجموعة من النتائج:
أولاً، إنّ استمرار الحكومة السورية (القديمة- الجديدة) بنهجها الليبرالي في ظل تفاقم وتعقد الأزمة الوطنية الشاملة التي تعيشها البلاد، سيزيد من عمق تلك الأزمة وسيرفع تكاليف الخروج منها. هذا ما أثبتته الحياة، وتعيد إثباته مع كل يوم جديد بعذابات السوريين وآلامهم.
ثانياً، إنّ إلغاء الدعم عن منتجات الطاقة وغيرها، وهو النهج الواضح لدى الحكومة، يهدف في نهاية المطاف إلى خصخصة قطاع توزيع المحروقات لاحقاً، وهو المحتكر اليوم شكلياً من الدولة. إلا أن مافيات الفساد تريد اليوم زيادة مراكمة الثروات الضخمة التي سرقتها من سوء توزيعه، ومن بيعه بأسعار خيالية للمواطن غير القادر على الشراء، ولكل من يستطيع الدفع أضعافاً عن السعر الرسمي «حتى وإن كان على الطرف الاخر من المتراس»، وصولاً إلى عرقلة استيراد مواده من الدول الصديقة إذا كانت أسعارها مضاربة لأسعار مافيات الاستيراد التي تفرض خوة على الاستيراد بحدود 20% من السعر العالمي.
وإن هذا النهج يحمل في طياته أخطاراً كبرى على وضع الغالبية المسحوقة من السوريين، بما يعني زيادة مستوى التوتر الاجتماعي إيذاناً بمستوى أعلى وأكثر تعقيداً من الأزمة. وإذا كان الشعب السوري المنهك من الأزمة لا يقوم بردود أفعالٍ فورية اتجاه لامبالاة الحكومة السورية بآلامه فهذا يعني شيئاً واحداً، هو أنّ الاحتقان يتراكم في الصدور على الصعيد الاقتصادي كما على صعدٍ أخرى متعددة، وينبئ بانفجار جديد أكبر من سابقه، وأكثر خطورة وتعقيداً منه بحكم تراكمات وتداخلات الأزمة الوطنية الجارية حالياً.
ثالثاً، إنّ تبرير الإجراءات الحكومية بمقولة «عقلنة» الدعم، يطرح منطقياً وموضوعياً بالمقابل مسألة «عقلنة» الأجور! فهل الأجور التي يتقاضاها معظم السوريين اليوم، سواء في القطاع الحكومي أو في القطاع الخاص، هي أجور «عاقلة»؟ وهل ينبغي التذكير بأنّ الغالبية المسحوقة من السوريين تعيش اليوم تحت الحد الأدنى لمستوى المعيشة؟ أم أنّ الحكومة قد حسمت موقفها نهائياً إلى جانب أصحاب الأرباح بوجه أصحاب الأجور؟ والأنكى هو أنّ الإنتاج الحقيقي في سورية منخفض إلى أدنى مستوياته ما يعني أنّ أصحاب الأرباح أنفسهم لا يجنون أرباحهم من مطارح الإنتاج الفعلي، الصناعي أو الزراعي، بل من القطاعات الخدمية والاستثمارية والمصرفية غير الإنتاجية، حيث مطارح الفساد الكبير من حيث الأساس. وللمفارقة، فإن أرباح المافيات من الاستيراد والبيع الاحتكاري في الداخل كافية لتعويض الزيادات التي تفرض على المواطنين.
رابعاً، إنّ تثبيت السياسات الليبرالية وتعميقها، يعني في جوهره تعميق «المؤامرة» على سورية ومؤازرتها ورفع فرص انتصارها، في الوقت الذي يجري فيه للمفارقة التشدق بمواجهتها وضرورات وأولويات هذه المواجهة! غير أن سلوك الحكومة الحالي ليس إلّا التطبيق الحرفي لتوصيات صندوق النقد والبنك الدوليين، المؤسستين التآمريتين اللتين لم تقدما للشعوب منذ تأسستا شيئاً سوى المديونية والتخلف والخراب والتبعية والفوضى التفتيتية الناتجة عن تعميق الفوارق الطبقية. 
إنّ القضية الاقتصادية ليست اقتصاديةً فحسب، بل هي قضية اجتماعية وسياسية أيضاً، وهي فوق ذلك قضية أمن وطني بما فيه الأمن الاجتماعي ضمناً، لذلك فإن التلاعب بهذه القضية منذ سنوات عديدة إذ مهّد الطريق نحو ما نعيشه اليوم، فإنّ استمراره يحمل مخاطر وجودية كبرى على سورية الأرض والشعب، ما يلقي على كاهل الوطنيين في كل مكان وضع مهمة «عقلنة الأجور» على جدول الأعمال اليوم قبل أي حديث عن «عقلنة» الدعم، ضمن مهمات الوقوف بحزم في وجه السياسات الليبرالية «المجنونة».