افتتاحية قاسيون 609 : إحراق سورية عبر البوابة الاقتصادية

افتتاحية قاسيون 609 : إحراق سورية عبر البوابة الاقتصادية

يدرك المتابع لسير الحدث السوري ضمن سياقه العالمي، وتحديداً ضمن سياق الأزمة الرأسمالية العالمية وأزمة مركزها الأمريكي، والتوازن الدولي الناشئ، أن موقف واشنطن العميق رافضٌ للحل السياسي دائماً وعلى طول خط الأزمة، وأنها اضطرت في ظل وضعها المذكور للتوجه إلى هذا «الحل» لتحقيق مالم تستطع تحقيقه من خلال العسكرة والصراع الميداني حتى الآن، أي أنها تريد حلاً سياسياً «على مقاس مصالحها».

ويقف خلف هذا الموقف الأمريكي «البراغماتي» وجملة ملابساته ومعطياته سببان رئيسيان: أولهما هو أن المطلوب أمريكياً هو التأزم والمزيد من التأزم وصولاً إلى إحراق سورية من الداخل، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه عبر الحل السياسي إذا كان حلاً حقيقياً يخدم السوريين فعلياً. وثانيهما، ارتباطاً بما سبق، أن إحدى أهم وظائف الحل السياسي الحقيقي في الجوهر هي تظهير الأوزان السياسية الحقيقية للمشروعين المتصارعين: الوطني واللاوطني، تلك الأوزان التي لا تخدم المشروع الأمريكي ومريديه من المتشددين في طرفي الصراع، وهي الأوزان التي تعمل واشنطن على إخفائها تحت دوي الرصاص.. وهنا ليس المقصود بالمشروعين المتصارعين طرفي الصراع، لأن الصراع المروج له اليوم (نظام- معارضة) هو أيضاً تشويه للصراع الحقيقي بين المشروعين سالفي الذكر..
وإذا كانت واشنطن قد قبلت بالحل السياسي تحت ضغط توازن دولي جديد، وهو توازن مؤقت يأخذه الميل العام لغير مصلحتها بشكل متزايد يوماً بعد آخر، فإن ما يجب فهمه بوضوح هو: لماذا تعمل أمريكا على عرقلة و«مطمطة» هذا الحل؟
من الممكن تفسير عملية العرقلة هذه بصعوبة الخروج الأمريكي من عقدة إنكار الواقع الجديد، واقع أن واشنطن لم تعد القطب العالمي الآمر والناهي، وما ينتج عن ذلك وما يرافقه، كما يرافق كل تراجع آخر، من انقسامات وإرباك وتخبط. ويمكن أخذ مؤشرات على ذلك من التصريحات الأمريكية المتناقضة يومياً. لكن هذا التفسير يبقى جزئياً، ذلك أن صياغة الاستراتيجية العامة للدور الأمريكي في المنطقة تختلف بشكل كبير عن المواقف السياسية الجارية التي تستخدم وفقاً للظروف الملموسة. في المقابل فإن واضعي السياسة الاستراتيجية الأمريكية الذين يدركون الميل التراجعي الأمريكي استراتيجياً يدركون تكتيكياً أن استمرار تأخيرهم للحل السياسي- كونهم ليسوا اللاعبين المتحكمين الوحيدين- لا يمكن أن يكون قراراً أمريكياً صرفاً إلا إذا توافرت الثقة بإمكانية استكمال إحراق سورية من الداخل، اللهم إلا إذا كان الحديث عن وجود قرار أمريكي استراتيجي بالتراجع المنتظم..
يمكن فهم ما سبق بشكله الملموس بالقول: إنه ما لم تضمن واشنطن حلها السياسي الخاص حول سورية فإنها ستعمل على إعاقة الحل السياسي الجدي إلى أبعد مدىً ممكن، أي إلى المدى الذي لا تعود فيه سورية بشكلها الحالي، ولا تعود هنالك حاجة لحل سياسي جذري أو غيره من الحلول، وأداتها في ذلك هي من جهة استمرار الاستنزاف العسكري والمحافظة عليه ضمن الحدود التي وصل إليها، ومن الجهة الأخرى السعي المحموم مؤخراً لإحداث انهيار شامل في الدولة السورية وبُناها عبر رفع الاستنزاف إلى أعلى درجاته الممكنة عبر الهجوم من البوابة الاقتصادية الرخوة والضعيفة نتيجة لتغلغل قوى الفساد الكبير في أجهزة الدولة على مدى العقود الماضية، ونتيجة لوضع الحكومة الحالية من حيث صلاحياتها وفاعليتها وبنيتها التي لا تستطيع تقديم أي معالجة جذرية للمشكلات الاقتصادية القائمة والمستجدة في ظل استمرار الأزمة والآخذة في التفاقم بسرعات قياسية..
وعليه فإن تفعيل القوى الداخلية والإقليمية والدولية لمواقفها وخطواتها المناهضة للمشروع الأمريكي لجهة الإصرار على الحل السياسي وتسريعه وتوجيهه حقيقياً وجذرياً لمصلحة السوريين، والقيام بخطوات استباقية ملموسة وسريعة باتجاهه قبل المؤتمر الدولي، بالتزامن مع خطوات جدية لتفعيل القوى المضادة للفساد في الداخل السوري، أصبح واجباً وطنياً وأممياً مستعجلاً..