الخروج من بداهة التوصيف إلى حقيقة التغيير
مروى صعب مروى صعب

الخروج من بداهة التوصيف إلى حقيقة التغيير

العلاقة بين العلوم، الأدوية والأبحاث التي تساهم في نشر هذه الأدوية ليست بجديدة، وقد تم التطرق إليها عدة مرات. ولكن أحياناً ليس هناك ما هو أفضل من الأرقام لكي نقول مرة جديدة: إننا لا نتحدث عن نظرية المؤامرة، بل عن وقائع نراها يومياً.

 

فمنذ أسبوع، صدر مقال عن مجلة Science alert ينعي العلوم والأبحاث العلمية. المقال تطرق إلى الأموال التي تتقاضاها المجلات العلمية من شركات الأدوية، عبر عدة طرق، لكي تقوم بنشر أبحاث تتوافق مع هذه الشركات. وكيف لا تقبل الأبحاث التي تتناقض مع هذه الشركات، هذا بخاصة، في المجلات المختصة بالأمراض وكيفية معالجتها، والأدوية.
فهذه هي بالأرقام ما تدفعه شركات الأدوية لمحرري المجلات العلمية. بحسب المقال، 50% من محرري المجلات العلمية المفتوحة للقراءة يتقاضون مئات آلاف الدولارات من شركات الأدوية سنوياً. هذه الأموال، منها ما يأتي بطريقة مباشرة من الشركات إلى المحررين، ومنها ما يأتي لدعم الأبحاث، أي: أن المؤتمرات العلمية التي نرى فيها أطباء ببذلاتهم البيض، وعلماء ينكرون الاحتباس الحراري مثلاً، أو يؤكدون على العوارض الإيجابية للأدوية العصبية على المرضى النفسيين، أشبه بمسرحية تدفع بطاقات الدخول عليها على مدى أعوام من جيوبنا. ولا تكتفي المجلات العلمية بذلك، بل أيضاً جزء من ربح هذه المجلات هو على المطبوعات التي تتكفل بها شركات الأدوية للأبحاث التي تؤكد إيجابيات، أي، من الأدوية التي ينتجون، والتي تتراوح في بعض المجلات بين 40 أو 50 % من عائداتهم السنوية.
يبين الجدول المرفق دناه، الصادر في المجلة الطبية البريطانية العام الحالي، بالأرقام قيمة ما تتقاضاه بعض المجلات العلمية التي تتمتع بمصداقية عالية في الصروح العلمية في العالم. فما نتج عن هذه العلاقة بين المجلات العلمية والصروح البحثية وشركات الأدوية، هو الحد من الأبحاث العلمية التي تتناقض مع مصالح هذه الشركات، ومصالح هؤلاء المحررين الشخصية. وليس هذا فقط، بل أيضاً الحد من التقدم العلمي الذي لا يتوافق مع هذه المصالح. فالهيجان الحالي من مسألة الاحتباس الحراري، والتلوث، وخطر المواد الكيماوية على الصحة وإلى ما هنالك من مواضيع تطرح، وكأنها اليوم بدأت وليست نتيجة تطور لما سبق، نتيجة لكون من حاول التملص من طرح هذه المعلومات، أو القضايا سابقاً لم يعد يستطيع ذلك، كونها أصبحت على مرأى الجميع. وكونهم اليوم يرون أنها قضية أخرى ممكن الاستفادة منها مادياً.
لا تتوقف المسألة على تحكم شركات الأدوية بحياة ملايين البشر، الصحية والتقدمية والعملية، بل تتعداها لكون هذا التحكم أصبح ممكناً بالدعم السياسي لهذه الشركات والمجلات العلمية. فسيطرة الولايات المتحدة على العلوم سمحت لها بالسيطرة على كل ما تنتجه. ونصبت نفسها على عرش العلوم، لكي يصبح ما ينتج منها حكماً صحيحاً.
نستعيد البداهة
عندما نفكر في ما وصلت إليه العلوم اليوم، وأين حشرت، نستذكر البداهة في ربط العلوم بالغرب، وما نتج عنه من أفعال لا يمكن اليوم ألّا نراها. فهناك العديد من الأمور البدهية في الحياة، ترتيب الوقت (الأيام، الأشهر، الفصول)، تقدمنا في العمر، احتياجنا لما نطلق عليه الأمور الأساسية، لكي نتقدم في العمر، وأي شيء نكتسبه مع هذا التقدم متحولين من مستكشفين لجميع ما حولنا إلى عارفين ببعض تفاصيله. في هذا العمر تدخل معطيات عديدة، وما يجعلنا نفهم ما يحدث حولنا، هو: ما تعلمناه من المجتمع المصغّر وما تعلمناه من الصروح الأخرى، كالمدرسة والاعلام وإلخ...
في هذا الوقت من الحياة بمجملها، أي: منذ أن تحولنا إلى دول ومواطنين وطلاب وعلماء وإلخ... إلى اليوم، تغير كثيراً مفهوم البداهة، وارتفع نسبة إلى التقدم الذي شهده العالم، مع أنه كان يجب أن ينقص، لكون تقدم العالم يجب أن يترافق مع تقدم وعي البشر الموجودين فيه. فمن البداهة اليوم القول: إن شركات الأدوية تتحكم بالأدوية والأبحاث الموجودة. ومن البداهة أيضاً، ربط هذا التحكم بالنظام السياسي الداعم لهذه الشركات، ولهذه الصرح البحثية. مع أن هذا كله بدهي، أحياناً تتسطح البداهة نفسها لتناقش، هل أن من أدى إلى دمار نصف الكوكب تقريباً_ وسيؤدي إلى دمار الكوكب كله إذا لم نوقفه_ يتاجر بكل ما يمكنه المتاجرة به؟
الخروج من البداهة
مع كل ما جرى إلى اليوم من أحداث في العالم، على الأقل الاحتباس الحراري، الارتفاع بنسبة الأمراض المزمنة، والتخبط في العديد من المسائل العلمية والاجتماعية، وكل ما يرافق ذلك، إلى أن نصل إلى الارتفاع في اغتراب الأفراد عن كل ما يحيط بهم، الخروج من البداهة، هو: الخطوة الأولى. أما الخطوات التالية فهي: كيف نخرج من البداهة عملياً، والجواب على مدى بساطته لن تمطره السماء، بل يجب أن نعمل لكي نصل إليه. وهو: الخروج من بداهة التوصيف إلى حقيقة التغيير.