كلية الإنسان تتفكك بمعادلات كمية (1)
مروى صعب مروى صعب

كلية الإنسان تتفكك بمعادلات كمية (1)

يشكل التطور التاريخي للعلوم عامة وللعلوم الاجتماعية بخاصة انعكاساً لكيفية عمل العلم السائد، وتعاطيه مع الأبحاث والأفراد عامة. شكلت النظريات والأبحاث التي قام بها العلم مع بداية تطوره، أرضية استعان بها العلم لاحقاً في تطوير نفسه كأداة لفهم، إما عمل البيئة ككل أو لفهم كيفية تطور الحياة الاجتماعية والنفسية للبشر. هذا حتى لو أخذنا العلم بانفصاله عن التطورات السياسية التي رافقته. وكان لأغلب العلماء في بداية تطوير قسم من العلوم، أبحاثاً عديدة (أغلبها نوعية) استناداً لأرضية بحثية تحكم عملهم.

 

ينفصل المنهج البحثي الرسمي السائد في العلوم إلى قسمين: نوعي وكمي، ومع تفكيك العلم السائد، أصبح للقسمين تفرعات كثيرة، تستعمل في حد البحث ضمن معالجة موضوع واحد مباشر، عبر عزل العوامل المؤثرة الأخرى. وحولت التركيز في الأبحاث من منهج بحثي نوعي، إلى منهج بحث كمي، في العلوم الاجتماعية بخاصة. وأصبحت لغة الأرقام سائدة لكي تثبت «علمية» البحث ومصداقيته، وقدرته على عكس نتائجه على شريحة كبيرة من البشر.
في ما يسمى عصر ما بعد الحداثة في العلوم، بدأت تطغى على علم النفس والعلوم الاجتماعية عامة، الإحصاءات الكمية التي تقيس العوامل من خلال مدى ترابط العناصر عبر الفروقات الرقمية. للتوضيح إن الإحصاء في العلوم الاجتماعية هو عبارة عن ملء استبيانات بأسئلة محددة من قبل صاحب الاستبيان، لكي يستخلص نتيجة عنصر من العناصر المبتغاة. فإذا أردنا معرفة مدى الاكتفاء الذي يتمتع به الأفراد في عملهم، علينا أن نسأل عن كمية ساعات العمل، المدخول، ساعات الراحة، العلاقات الاجتماعية في العمل وأحياناً خارج العمل، الطموح، والهدف. الأسئلة التي تتم الإجابة عنها من قبل عيّنة محددة، تستند إلى نظرية حول الاكتفاء في العمل مثلاً، وتطال فكرة معينة في قياس أي عامل، إما مدى التأثير أو كيفية الادراك أو إلخ... الارتفاع في نسبة الاستناد إلى البحث الكمي في العلوم الاجتماعية، الذي حصل في التسعينات، رافق التغيرات السياسية العالمية التي جرت حينها، وسيطرة القطب الواحد على العالم وما يحتويه. وارتفعت أسهم مصداقيته ليشكل اليوم إحدى الحجج في نقض أو تفسير عامل اجتماعي أو نفسي، ولهذا عدة أسباب ونتائج.
فصل النظرية عن التطبيق
الاستناد إلى الأبحاث الكمية، أو صب الاهتمام في إيجاد علاقة رقمية بين العوامل، غير منفصل عن النظرية التي تحمل منهج البحث. كون التفكيك في العلوم الاجتماعية والتخبط الحاصل، وجدا مخرجاً في تثبيت هذه النظريات، التي تعزل العامل البيئي عن العوامل الأخرى مثلاً. كما استطاع صب التركيز على بعض العوامل عازلاً أخرى، أو التركيز في الأبحاث على الفروقات الأثنية والجنسية. والاستناد إلى المنهج البحثي الكمي والتعقيدات التي تصطنع في عرض الأرقام، عَزَل الّربط بين فرضية و/أو أسئلة البحث وبين النتيجة. كون معظم الفرضيات و/أو أسئلة البحث التي تستعمل في هذه الأبحاث، تصاغ مستندة إلى العوامل التي تطرحها، وتغيّب العوامل الأخرى غير المطروحة. مثلاً: ربط الآليات الدفاعية (النفسية) بالفروقات الجنسية، وتغييب الفروقات الاجتماعية والطبقية.
عبر معظم الأبحاث الكمية، إلا بعضها التي تترافق مع أبحاث مخبرية، نستطيع فقط ربط أو إيجاد علاقة متبادلة بين عنصرين أو عاملين (أو أكثر من اثنين فقط). وهي غير قادرة على ربط السبب بالنتيجة. هذا لكون النظرية المستندة إلى معظم هذه الأبحاث في العلم السائد، مفككة في مضمونها، وما يمكن أن تقدم.
رفع الحيادية
استناد المنهج البحثي (كما التحليل والمواقف في الحياة عامة) إلى نظرية (مثلما نستند إلى فكر في تحليلاتنا واتخاذنا للمواقف) يرفع عنه الحيادية في الأبحاث، ويضعه خلف النظرية في تشويه العلوم ونتائج الأبحاث، واستخدامها في تسطيح البشر واستغلالهم «بطريقة علمية». وتغليب المنهج البحثي الكمي على النوعي في الأبحاث، مرتبط بتفكيك العلوم، كون المنهج البحثي أولاً: يجب أن يتمكن من الإجابة عن فرضية و/أو أسئلة البحث، وثانياً: في كون البحث المتكامل يحتاج إلى نظرية ومنهج بحثي متكامل، لا يفصل بين الكمي والنوعي بل يتعامل مع العلوم والأفراد بكلية. أما العيّنة والصعوبة المصطنعة للمعادلات الرياضية التي تستخدم في الإحصاء، بالإضافة إلى السيطرة على العلوم عبر المنهج البحثي، فهي أسباب أخرى في التركيز على المنهج البحثي الكمي في العلوم الاجتماعية عامة، والتي سنتطرق إليها في المقال القادم.