البيان الشيوعي بعد 170 عاماً

البيان الشيوعي بعد 170 عاماً

مجانية التعليم_ الضريبة التصاعدية على الدخل- إزالة الفوارق بين المدينة والريف_ مركزة وسائل الاتصال والنقل في يد الدولة، وغيرها... مطالب ما زالت ملحَّة وراهنة لمليارات الناس حول العالَم اليوم في 2018 كما كانت عام 1848 عندما بادر الشيوعيون للمطالبة بها في برنامجهم «البيان الشيوعي».

 

مرَّت في شباط هذا العام الذكرى 170 على صدور البيان الشيوعي من تأليف كارل ماركس وفريدريك إنجلس، والذي يعد من أحد أهم أعمالهما، ونقطة انعطافية في تاريخ الحركة العمالية والثورية العالمية، وما تزال أفكاره الجوهرية العامة تحتفظ بصحتها وراهنيتها حتى اليوم.
البيان كإعلان هويّة
كتب البيان الشيوعي كبرنامج حزبي شامل، نظري وعملي، لعصبة الشيوعيين، وهي أول منظمة سياسية بروليتارية أممية الطابع والعضوية والأهداف (رغم بداياتها التي كانت تقتصر على عمّال ألمان). وبعد فترة من العمل السري بسبب قمع انتفاضات الطبقة العاملة في النصف الثاني من أربعينيات القرن التاسع عشر، جاء تبني عصبة الشيوعيين وإطلاقها العلني للبيان الشيوعي كحدثٍ تاريخي يعني على صعيد الصراع الطبقي والسياسي العام في أوروبا آنذاك، إعلاناً رسمياً عن نضوج الحراك الشعبي والسياسي للطبقة العاملة، وتحوله إلى حراك ثوري، تبلور بظهور علني لحزب شيوعي منظَّم يخاطب قواعده ويعبّئها لقيادة نضالاتها بأهداف علنية ومحددة، راسماً بوضوح خطوط الوصل والفصل لتحالفاته وخصوماته، مع شتى القوى الطبقية والسياسية الأخرى، من جهة، ولخوض النضال الفكري والعملي للفرز الداخلي بين التيارات الاشتراكية المختلفة نفسها، من جهة أخرى، وذلك حسب القرب أو البعد عن أسس الماركسية (الفلسفة المادية الديالكتيكية، والمادية التاريخية، والاشتراكية العلمية) التي كانت تتطور بالتوازي، والتي تمثل وثيقةُ البيان نفسه أحد أهمّ التعبيرات الناضجة عن تطوّرها ذاك.
لا شك أن أي مقال يعجز عن استنفاد الغنى المتعدد الجوانب لعصارة فكرية كثيفة كالبيان الشيوعي، لكنّ يؤمل أن يستفاد من إعادة تناول نقاط منتقاة منه، ولا سيما في ضوء الأحداث المعاصرة.
البيان ضد الاختزال الكاريكاتوري للصراع الطبقي
منذ زمن البيان وحتى اليوم، يراوح طيف المواقف التي يتخذها الاشتراكيون إزاء طبقات المجتمع المختلفة، بين الانعزالية الجامدة دون تقدير أية أهمية للتحالفات الطبقية، وتصفوية عدمية إلى حد تضييع البوصلة البروليتارية. في حين أنّ البيان الشيوعي طالب بفهم مركَّب لميزان القوى الطبقي والعلاقات بين الطبقات في المجتمع، على أساس ديالكتيكي ومتحرك، تبرز أهميته خاصة بعد الأزمات التي تهزّ المجتمع وتعيد فرزه واصطفافاته، إذ: «يُدفع بقسم صغير من الطبقة السائدة، إلى أن ينسلخ عنها ويلتحق بالطبقة الثورية التي تقبض بيديها على المستقبل. وكما انتقل في فترة ماضية قسم من النبلاء إلى جانب البرجوازية، ينتقل الآن قسم من البرجوازية إلى جانب البروليتاريا، وبشكل خاص، ذلك القسم من الأيديولوجيين الذين ارتفعوا بمستوى معرفتهم النظرية ليستوعبوا الحركة التاريخية بشموليتها».
ولهذه الفكرة أهميتها في البعد التكتيكي لتحالفات الطبقة العاملة، كما وتحمل بذرة هامة لما طوره لينين وغرامشي فيما بعد عن المثقفين «التقليديين» و«العضويين». ولكن البيان في الوقت نفسه حاسم في تحديده الاستراتيجي لمن هي الطبقة الثورية حتى النهاية: «ومن بين الطبقات جميعها التي تواجه البرجوازية اليوم، فإن البروليتاريا هي وحدها الطبقة الثورية حقاً، فالطبقات الأخرى تنحل وتتلاشى...».
هل من جديد في جعبة «الحلول» البرجوازية؟
عن سؤال «كيف تتغلب البرجوازية على هذه الأزمات؟» يجيب البيان: «بتدمير قسم من القوى المنتجة من جهة، وبالاستيلاء على أسواق جديدة وزيادة استغلال القديمة منها من جهة أخرى. أي: أنها تمهد الطريق أمام أزمات جديدة تكون أشمل وأشد تدميراً، وتقلل من الوسائل التي تؤدي إلى تلافيها». هذه الخلاصة التاريخية العامة لخيارات الرأسمالية في التعامل مع أزماتها، أثبت حتى اليوم أنّها تحتوي كل تلاوين الحروب والأمراض وتحديد النسل القسري، وغيرها من أساليب المالتوسية الجديدة، التي تصب في «تدمير القوى المنتجة». أما «الاستيلاء على أسواق جديدة...إلخ» ما زال ديدنَ الرأسمالية، حتى لو اتخذت مساعيها لذلك شكل فانتازيا تاريخية اليوم، عندما انتهت الرأسمالية من تسليع كوكب الأرض بأكمله تقريباً، فانتقلت حتى لتسليع الفضاء والكواكب الأخرى (مشاريع وكالة الفضاء الأمريكية ناسا نموذجاً).
البيان وثورة الاتصالات
ذكر البيان أهمية «تحسن وسائل المواصلات التي خلقتها الصناعة الحديثة، والتي تربط العمال في مختلف المناطق وتجعلهم على اتصال مع بعضهم البعض. وكانت الحاجة إلى هذا الاتصال ضرورية حتى تتحول النضالات المحلية المتعددة إلى نضال طبقي». وأشاد آنذاك بفضل «السكك الحديدية»، فما بالنا اليوم بالأهمية التوحيدية والتنظيمية للتكنولوجيا الأحدث والأسرع بما لا يقاس في مجال المواصلات والاتصالات والتواصل الاجتماعي...
المسألة القومية في البيان
يلاحظ البيان ويفسر على أساس مادي واقتصادي الميل التاريخي إلى أن «يصبح النتاج الفكري لكل أمة على حدة ملكاً مشتركاً للجميع. ويصعب أكثر فأكثر التعصب والتقوقع القوميان لدرجة الاستحالة» رغم أنّ «نضال البروليتاريا ضد البرجوازية يكون في بداياته نضالاً قومياً في الشكل وليس في المضمون. ومن البدهي القول: إنّ على بروليتاريا كل بلد أن تتخلص من برجوازيتها قبل كل شيء». ويذكر البيان أحد المعايير الهامة من أجل تمييز الشيوعيين عن الأحزاب العمالية الأخرى، وهو: أنَّه «في جميع الصراعات القومية لبروليتاريي مختلف البلدان، يُبرِز الشيوعيون ويُغَلِّبون المصالح المشتركة والعامة للبروليتاريين جميعهم، بغض النظر عن انتماءاتهم القومية».
وحول الاتهامات الموجهة للشيوعيين قديماً وحديثاً بخصوص «وطنيتهم»، يوضح البيان: «العمال لا وطن لهم، لذلك لا يمكن أن يُسلَبَوا ما لا يملكون. وبما أنّ على البروليتاريا أن تستولي أولاً على السلطة السياسية، وأن ترتقي لتغدو الطبقة القائدة للأمة، وأن تصبح هي «الأمة»، فهي ما تزال بَعدُ وطنية، ولكن ليس بالمعنى البرجوازي للكلمة».
البيان والثورة المضادة
هناك استناجاتٌ بعينها في البيان تكتسب مغزى خاصاً بالنسبة لمرحلتنا التاريخية الحالية، ومنها مثلاً: ما يخص ما يمكن تسميتهم (الثوريين بالصدفة): «إن كل الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى: صغار المانيفكتوريين، أصحاب الحوانيت، الحرفيون، والفلاحون، تحارب البرجوازية دفاعاً عن وجودها وخوفاً من تلاشيها كطبقة متوسطة. فهي إذاً ليست بثورية، بل محافظة. وهي بالإضافة إلى ذلك رجعية، لأنها تسعى إلى إعادة التاريخ إلى الوراء. وإذا صدف وكانت ثورية، فذلك لأنها تتوقع انزلاقها الوشيك نحو البروليتاريا».
كما يرتدي أهمية خاصة حكم البيان الشيوعي على تلك القوى الاجتماعية التي طالما شكلت احتياطيات وأدوات للثورات المضادة، ولأشكالها التي ظهرت لاحقاً كفاشية وفاشية جديدة: «أما الطبقة الخطرة (البروليتاريا الرثّة)، حثالة المجتمع، الكتلة النتنة المستسلمة، الملفوظة من الشرائح الدنيا للمجتمع القديم، التي تدحرجت هنا أو هناك، إلى الحركة بفعل ثورة البروليتاريا، فإنها بحكم ظروف معيشتها، أكثر استعداداً لبيع نفسها إلى مكائد الرجعية».
حفَّارو القبر والجثة المتعفنة
«إن البرجوازية تنتج قبل كل شيء حفَّاري قبرها. فسقوطها وانتصار البروليتاريا أمران حتميان لا بدّ ولا مفر منهما». لم تغيِّر 170 عاماً بعد البيان من هذه الحقيقة، فالطبقة العاملة ما زالت هي الحفَّارة الحقيقية لقبر البرجوازية ولقبر المجتمع الطبقي كله، ولو أنّ جثة النظام الرأسمالي بجلدها الإمبريالي لم تدفن بعد، فهذا لا يغير من واقع كونها جثة، بمعنى انتهاء صلاحية علاقات الإنتاج الرأسمالي بالنسبة لدرجة تطور قوى الإنتاج، وكل ما حصل لها بعد ذلك وحتى الآن هو: عملية التعفّن والتفسّخ التي وصَّف بها لينين «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية».
أعظم الثورات لمّا تأتِ بعد
«فلترتعد الطبقات الحاكمة خوفاً من ثورة شيوعية، فليس للبروليتاريين ما يخسرونه سوى أغلالهم، وأمامهم عالم كامل يربحونه»
يا عمال العالم اتحدوا!