فكرة الزمن وتأبيد الرأسمالية
محمد المعوش محمد المعوش

فكرة الزمن وتأبيد الرأسمالية

حازت فكرة السفر عبر الزمن حيّزاَ حاضراً في النقاش العلمي إلى جانب كونها شكّلت مادة مهمة للأفلام وروايات الخيال العلمي كذلك، ومن البداية يمكن القول أنها لعبت دوراً كأداة أيديولوجية بيد الرأسمالية لمحاولة تأبيد النظام في العقول، إلى جانب السفر المكاني في المجرّة الذي أشير إليه في مقالات «قاسيون» سابقاً.

محمد المعوش

الزمن كمفهوم اجتماعي
الزمن هو أداة قياس للحدث الواقعي الاجتماعي التاريخي المتحوّل وانعكاس للتجربة الاجتماعية، فحسب العديد من المفكرين غير الماركسيين حتى، شددوا على أن فكرة الزمن، كما فكرة الأرقام، هي شكل من التجريد للظاهرة الواقعية. ويمكن العودة إلى فيغوتسكي -العالم السوفياتي نفسه، في فكرته أن مراجعة تطور وظائف الفرد العقلية هي إلى حد ما تعيد إظهار التاريخ التطوري للبشرية، ولو كان الأول ليس نسخة مطابقة عن الثاني بالضرورة.
ويعتبر فيغوتسكي مثلاً: أن الذاكرة الفردية هي وظيفة تظهر في مرحلة محددة من تطور الفرد، حيث يتماسك الحاضر من خلال اللغة ورموزها، فيرتبط بذلك إمكان ترابط الماضي(الذي كان «حاضراً» وقُبض عليه بأداة اللغة) مع الحاضر والمستقبل كذلك (عبر وظيفة التوقُّع).هكذا تتشكل فردياً أرضية الزمن في الوعي، ضمن التجربة، وهكذا كان ظهورها في تاريخ النشوء البشري، تعبيراً عن تعقد التجربة الاجتماعية للإنسان وظهور اللغة، ولهذا ترافق مثلاً ما سمي بالتاريخ المعروف مع اللغة المحكية أولا حيث انتقلت بين الأجيال الروايات والأساطير، ومن ثم اللغة المكتوبة التي دونت الأحداث. والتي كلها شكلت الذاكرة التاريخية، ولو أن كلًّا من القوى الاجتماعية يقرأها ويفسرها حسب موقعه السياسي من حركة التاريخ.

حركة التاريخ يصنعها البشر
يقول ماركس: إن البشر يصنعون تاريخهم، فالتاريخ كعملية واقعية اجتماعية هي الأحداث التي تتشكل في الصراع الطبقي، فتاريخ البشرية هو تاريخ هذا الصراع كما عبر ماركس وإنجلز أيضاً.
إذا فالتاريخ هو: تعبير عن واقع مادي مترابط في أحداثه تحكمه القوانين التي حسب ماديتها يصنع البشر تاريخهم ومحكومين فيها، والزمن هو: قياس للظواهر الطبيعية والتاريخية الاجتماعية، التي هي في حدوثها ذات طبيعة مادية، ليصير قياسها ممكناً.
إذاً: لا التاريخ المادي للمجتمع، ولو كان مسجلاً من وجهات نظر مختلفة، هو خارج العملية المادية، ولا الزمن هو كذلك قائم بذاته، بل تجريد للحركة المادية نفسها. ولا وجود لتاريخ لم يصنع بعد، ولا زمن إلا الحركة المادية نفسها في سيرورتها المترابطة المادية في الواقع لا في «مساويات» الكون «الخفيّة».

السفر عبر الزمن:  الخدعة والوهم
على أساس مادية التاريخ والزمن في وحدتهما يظهر عُري فكرة السفر عبر الزمن، كانتقال زماني إلى المستقبل غالباً (فالماضي حسب أغلب هذه الطروحات السفر إليه أصعب!)، والمضمون الأيديولوجي الأساس لهذا الطرح هو: كسر مادية الزمن الذي هو قياس لحركة التاريخ وترميز لها، وإن تم التعبير عنه بمقولة الزمن. هكذا يصبح التاريخ خطاً مسجلاً خارج المجتمع حسب هذا الطرح، وهو تعبير عن مفهوم القدريّة كتيار فلسفي في نظرته إلى التاريخ، وإذاً، إن ما يجري حولنا كله هو تعبير عن هذا التاريخ «الثابت» الذي يمكن أن ننتقل بين مراحله إذا تملَّكنا التقنية العلمية المناسبة، وإن كانت صعبة إلى الآن، إذاً: نحن أسرى اللحظة، بانتظار العِلم لكي يقدم لنا هذا التقدم التكنولوجي لكي نتقدم إلى المستقبل، ولكن هم لا يقولون لنا أي مستقبل ننتقل إليه بعد تملكنا هذه القدرة.
وبهذا يصنع الوهم، فالمستقبل إذا حسب هذا الطرح لا يصنع، وإن كان يصنع فهو في عملية صناعته تلك يعبّر عن التاريخ-الزمن المقدّر خارج المجتمع، وهو الذي يجري الكلام عن السفر بين مراحله.
مادية التاريخ والزمن في وحدتهما وجدليتها هذه عبر عنها ماركس في مراسلته إلى إنجلز بأن «في التطورات التاريخية الكبرى ليست عشرون سنة أكثر من يوم واحد، مع أنه تأتي فيما بعد أيام تضم في أحشائها عشرين سنة».

من كهف الضرورة إلى الحرية
وحسب هذه الجدلية فإن البشرية قد تنظر إلى ما قبل تاريخها (كما عبر ماركس) حين تتخطى نسبياً الضرورة إلى الحرية، الذي سيبدو لها حينها أنه زمنٌ قليل، ما إن يبتدئ التسارع والتكثف في تاريخها الحر من الاستغلال والطبقات، وما أن تحتشد الطاقات والقدرات الاجتماعية، حيث إنهم في صنعهم للتاريخ «سافروا» فيه حسب وعيهم، وهم حددوا اتجاه سيرهم لا محكومين بعمى نظرية «السفر عبر الزمن» إياها. وكأنهم وقتها يعيدون قصة أهل الكهف في النص الديني، حيث سيبدو لهم تاريخهم السابق كأنهم لبثوا في كهفه المظلم «يوماً أو بعض يوم» فقط، ما إن ينكشف لهم التاريخ الحقيقي في غناه ونوره.  

معلومات إضافية

العدد رقم:
829