أمّ الاختراع..

أمّ الاختراع..

وضع الشاب حقيبته الصغيرة على إحدى الطاولات، فتحها على عجل فخرج منها كيس بلاستيكي سميك، فغر الجميع أفواههم عندما بدأ الكيس العجيب بالانتفاخ، وتحولت تلك القطعة البلاستيكية المضغوطة في أقل من دقيقة إلى صندوق شفاف متماسك، أخرج الشاب أحزمة صغيرة من بعض الجيوب، وبدأ يثبتها داخل الصندوق بحذر ودقة، بدأت مراوح صغيرة بالعمل وأضاء مصباح صغير محتويات هذا الابتكار العجيب، التفت بسرعة إلى أحد الرجال، وتناول من بين يديه لفافة من القماش تضم رضيعة لم يتجاوز عمرها الساعات، نظر الشاب إلى ملامحها الشاحبة وهي تحاول بصعوبة الصراخ من دون جدوى، وأخذ يدخلها بحذر إلى داخل صندوقه العجيب ثم أغلق عليها رباطاً خارجياً وسط دهشة والدها وحيرة الحاضرين.

محظوظة تلك الرضيعة، فقد ساهمت تلك الحقيبة البلاستيكية في إنقاذ حياتها، دون سواها، يعلم الشاب بأن أقرب مشفى يبعد مئات الكيلومترات عن هذه المدرسة القديمة التي تكدس فيها أولئك اللاجئون، والصغيرة الضعيفة بحاجة إلى حاضنة تساعدها على تجاوز الأيام الأولى الباردة من حياتها، هذا الشاب لم يتجاوز عقده الثاني من العمر، وهو اليوم أحد «نجوم» الصحف والوكالات الإخبارية الأجنبية، إنه الطالب البريطاني «جيمس روبرتس»، صاحب الاختراع الذي سينقذ «جيلاً كاملا من السوريين»، لا تعتقد وكالة «سي بي سي» الأمريكية أنها تبالغ في قولها هذا.
حاضنة «محمولة» للأطفال
قدم «جيمس» للعالم أول حاضنة «محمولة» للأطفال، وهي عبارة عن حقيبة خاصة تنتفخ لتتحول إلى حيز خاص يمكن التحكم بجميع معاملاته الحيوية، هناك مراوح صغيرة لتوزيع الهواء ومسخنات خاصة للتحكم بدرجة الحرارة، مع تعديل كامل ولحظي لمستويات الإضاءة والرطوبة، على أن يتصل هذا بأي مصدر متوفر للطاقة كبطارية سيارة مثلا، كان هذا الاختراع متقناً للغاية، فتحول في غضون أيام من مشروع علمي جامعي إلى ابتكار قابل للاستثمار والتوزيع، واختراع حاصل على جائزة «جميس ديسون» المرموقة بقيمة ثلاثين ألف يورو، كان «جيمس» سعيداً للغاية.
الحقيبة السحرية
يقول الشاب: «لقد كنت أتابع في أحد الأيام تقريراً وثائقيا عرضته قناة بي بي سي، خصص التقرير دقائق تحدث فيها عن موت المئات من الأطفال السوريين الحديثي الولادة في مخيمات اللجوء، تأثرت كثيراً بما رأيت، وقررت أن أفعل شيئاً، بدأت بدراسة مبدأ عمل حاضنات المشافي الالكترونية وصممت نموذجاً أوليا باستخدام بعض مراوح أجهزة الكمبيوتر ولوحاتها الأساسية، وها هو النموذج النهائي قد أصبح جاهزاً للعمل» يشير الشاب إلى حقيبته السحرية فتلتقطها العدسات على الفور، تحولت ابتسامة الرضا على وجهه إلى خبر رئيسي على الشاشات العالمية، هو اختراع مميز بلا شك، ويدل على حسن نية وتعاطف نبيل لا يستطيع أي منا تجاهله، لكنه يقف عند هذا الحد بعد أن تحول بسرعة إلى دعاية إعلامية لا تحمل سوى التعاطف الفارغ، وهي بالطبع لن «تنقذ جيلاً من السوريين»، فالأمر أعقد بقليل من هذا.
مهندسون سوريون
بالحديث عن الاختراع، هناك من يحاول أن يفعل شيئاً ما، ومن الداخل، هناك ابتكارات عجيبة استدعتها «الحاجة» الصرفة، وهي تلقى الكثير من الاهتمام بعد أن تسربت أخبارها عبر قنوات التواصل الاجتماعي، فلم يكتف البعض «بلعن الظلام»، فصنع المهندس السوري «نعمان أبو حسين» مولداً للكهرباء يعمل على طاقة الرياح بجهد فردي مميز، وأفاد بانه البديل المناسب في الأماكن التي تعاني من انقطاع دائم في التيار، وهي كثيرة بلا شك في هذه الأيام، كما تناقلت الكثير من الصفحات أخباراً عن قيام العديد من سكان غوطة دمشق بزرع مراوح على أطراف الينابيع والانهار، تقوم بالتقاط التيارات الهوائية لتحولها إلى طاقة كهربائية، حيث قامت بعض الورش المحلية بتصنيعها يدوياً كبديل حقيقي عن التيار الكهربائي الطبيعي، وهو ابتكار يشابه إلى حد كبير ما جربه بعض المهندسين الحلبيين منذ عدة أشهر على أطراف نهر «قويق»، كأحد المشاريع الرائدة في هذا المجال، والذي استدعى اهتمام الكثير من التقنيين، وبدأت جهات محلية مستقلة بالعمل جدياً على استثمار طاقة الرياح، الطاقة التي فشلت الحكومة منذ سنوات في استثمارها بالشكل الأمثل، فاعتمدت على الوقود بالمرتبة الأولى، وها هي تتخبط في الظلام.
ابتكارات للحالة السورية
ربما كانت الضرورة سبباً في ظهور جميع تلك الابتكارات، تجمعها الحالة السورية المميزة، بعد أن ضاق أصحابها ذرعاً بواقعهم المؤلم، لكنها تحتاج للكثير من الجهد والدعم كي تحقق مبتغاها، وستبقى حبيسة أقبية مخترعيها لفترة طويلة، وربما سيتحول بعضها إلى مادة صحفية شيقة أو خبر عاجل مسل لا أكثر، أو يصبح بعضها سبيلاً لتغليب الجانب الإنساني لاستدرار العواطف واستثماره في غير محله، لكنها بلا شك بصيص من الأمل يحمله شعب ما زال على قيد الحياة، بصيص يشع نوره خافتاً بعد أن انقطعت الكهرباء وانطفأت جميع الأنوار الأخرى.